اخر عشرة مواضيع :         متجرخولة لفن الحياكة و الكروشيه (اخر مشاركة : ماريا عبد الله - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          موقع قرة الوجهة الرئيسية لمحبي المعرفة والتعلم الدائم (اخر مشاركة : ماريا عبد الله - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أفضل تطبيق لمشاهدة المباريات والقنوات المشفرة على الأندرويد (اخر مشاركة : ماريا عبد الله - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          معمول الجابرة (اخر مشاركة : ماريا عبد الله - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          برنامج Cryptotab متاح للتحميل الان (اخر مشاركة : ماريا عبد الله - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          حازم المراغى يعود (اخر مشاركة : حازم المراغى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 154 )           »          ادخل لك رساله (اخر مشاركة : حازم المراغى - عددالردود : 788 - عددالزوار : 144179 )           »          تطبيق شاور لتفسير الاحلام (اخر مشاركة : فهمي سامر - عددالردود : 0 - عددالزوار : 172 )           »          تطبيق عقارات السعودية متوفر الان للتحميل (اخر مشاركة : فهمي سامر - عددالردود : 0 - عددالزوار : 215 )           »          المواد الحافظة ومخاطرها على صحتنا (اخر مشاركة : جـوهرة 99 - عددالردود : 6 - عددالزوار : 562 )           »         


لوحة الشـرف
القسم المتميز العضو المتميز المشرف المتميز الموضوع المتميز
قريبا قريبا قريبا قريبا


العودة   منتديات المروج المشرقـــة > المروج الأدبية والفنية > ~¤¢§{(¯´°•. مروج القصص والروايات.•°`¯)}§¢¤~
التسجيل التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم

~¤¢§{(¯´°•. مروج القصص والروايات.•°`¯)}§¢¤~ كل ما يتعلق بالقصص والروايات الأدبية والمحاولات الشخصية

الإهداءات

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
قديم 06-13-2008, 04:59 AM   #53
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


سأموت هدراً

كان شاكر يوسف قد استمرئ علاقته بالحية الأمريكية كروثر هلكر، وقلما جاء يوم أجازته الأسبوعي وهو بعيد عنها، فهو يوم ملكها وحدها، سرعان ما يمر نهاره في لحظات لا يحس بها.

وبرغم اعتياده التنوع والتعدد، إلا أنه أمام هلكر بدا جائعاً أبداً، فالفتاة الخبيرة كانت تمنحه ما لم يألفه، وتذيقه ما لم يرشفه، فبات دائماً في حالة جوع مستمر، وعطش لا ينقطع. وتركها تقذف اليه بمشاعرها فياضة جارية، دون أن يجاريها لهفة الأحاسيس التي تصبها صباً في أذنيه.

ولما تجرأت ذات مرة وعرضت عليه الزواج، ثار في وجهها:

زواج . . ؟ أجننت هلكر. . ؟
ولما لا . . ؟ أنا أحبك ولست بقادرة على الابتعاد عنك.
تعرفين أن لي زوجة بالعراق . . وابن.
أعرف .. لكن ما ذنبي أنا.
وما ذنبي أنا أيضاً. . ؟ وما ذنب زوجتي التي تنتظرني..؟
أتحبها أكثر مني يا شاكر. . ؟
هي زوجتي أم ابني . . وأنت عشيقتي.
شاكر. .
هلكر .. أتذكرين أول لقاء بيننا. . ؟ أتذكرين ماذا قلت لك. . ؟
أرجوك . .لقد كنت بشعاً. . لا أريد أن أتذكر.
لا . . يجب أن تعترفي. . لقد قلت لك يومها أنني زوج وأب. . وأحب زوجتي وابني وبيتي. .وما بيني وبينك مجرد صداقة غير ملزمة. .أنسيتِ. . ؟
لم أكن أعرف أنني سأحبك بجنون.. لم أكن أعرف.
لكن علاقتنا استمرت على ما اتفقنا عليه.
أكنت تستمتع بي طوال هذه المدة وكأنك تعاشر مومساً لا مشاعر لها. .؟
أنت كنت تستمتعين أيضاً. . وإلا ما كنا معاً الآن.
شاكر لا تعاملني كامرأة ساقطة . . أرجوك.
إذاً لا تطالبينني بحق ليس لك.
شاكر . . سأموت بدونك. . أقسم لك على ذلك. .
ستنسين كل شيء عندما أغادر الى العراق.
لن تغادر أمريكا إلا بعدما تحضر جنازتي.
هلكر يا عزيزتي . . إن ما بيننا ليس حباً. . بل هو نزوة. . رغبة. . احتياج رجل لامرأة هي الأخرى تريده.
هذا ما تدعيه أنت . .أما أنا فلا . . فحبي لك أكبر من أن أصفه لك. .
الأيام الرائعة التي جمعتنا يجب أن تكون ذكرياتها أيضاً رائعة. كفى بكاء لأنني لا أحب بكاء المرأة.
حبيبي . .لدي رصيد بالبنك من ميراث والدي . . وشقة جميلة كنت دائماً تحسدني عليها. .فلنتزوج . . وسأضمن لك عملاً ممتازاً هنا وراتباً خيالياً.
عزيزتي ليس هذا ما يغريني أو يشغلني، فأنا راتبي ضخم أيضاً. .وأسرتي ثرية جداً ولا أعاني مادياً في بلدي.
شاكر أنت تضيّع فرصة كبيرة تنتظرك ومستقبل و . .
كفى . .كفى . . لقد ضقت ذرعاً بكلامك المكرر. . وأخشى أن أكرهك فكفى أرجوك.
أهكذا تعامل امرأة تحبك. . ؟
لقد وطّنت نفسي على ألا أحب سوى زوجتي. . وقلت لك هذا مراراً . . فلا داعي لمضايقتي. .
لماذا إذن خنتها وعاشرتني. . ؟ إن مبادئك كاذبة.
إنك تضيعين الوقت هباء . . سأنصرف.
شاكر .. أيها الحبيب انتظر. .
……………………..
……………………..
…………………….

وفي القاعدة الجوية تعمد شاكر تجاهلها بعد ذلك. . وتحول حديثه العابر معها الى حديث فاتر. . أشعرها بخيبة الأمل . .وأقلق رجال المخابرات الذين ينتظرون سقوطه بفارغ الصبر.. وكتبت هلكر تقريراً ضمنته فشلها، وفيه طلبت من رؤسائها سرعة نقلها لمكان آخر لأن عقلها يكاد يجن. . فهي المرة الأولى التي تفشل فيها في السيطرة على رجل، رجل استباح جسدها لأكثر من شهرين بلا ثمن. . وبلا فائدة.

لكن رؤسائها رفضوا سحبها من القاعدة الجوية، على أمل أن تستدرجه من جديد. .وطالبوها ببذل الكثير من الجهد لاحتوائه، وأن تكون أكثر لطفاً معه قدر الإمكان، لعل وعسى.

ومع الإخفاق المبدئي مع النقيب شاكر، تكثفت الجهود لكي لا يفلت حامد ضاحي هو الأخر. .وبدلت زينب أسلوبها هي الأخرى، بما يتفق ورغبة الطيار النادم في ألا يعاود الخطأ معها، لذلك أحاطته بمشاعر حب كاذبة .. مجتهدة قدر استطاعتها في تقريبه اليها عاطفياً، مستغلة أحاسيس الندم التي تملكته للعب عليها.

وفي لقاء لهما بحديقة الفيلا، ارتبك ضاحي عندما سمعها تقول فجأة:
ضاحي . . لقد قررت ارتداء الحجاب (!!). .
حجاب . . ؟ هنا في أمريكا. . ؟ ولم . .؟
أريد أن أشعر بأنني مسلمة. . أصلي .. وأصوم. . وأستغفر. .
بإمكانك أن تفعلي كل ذلك بدون الحجاب.
ألا تشعر بالندم مثلي.. ؟
إنني أبكي في كل صلاة وأدعو الله أن يغفر لي. .
لقد كرهت جمالي واشمئززت من نفسي بعدها. .وتمنيت أن أكون دميمة على أن أكون حقيرة مذنبة.
زينب . . الحمد لله الذي هدانا.
أنت إنسان صادق حقاً. . أتمنى من الله أن أكون دوماً الى جوارك.
. . …………….
ستترك لي أمي هذه الفيلا لأتزوج بها. . وستمنحني خمسمائة ألف دولار لأبدأ مشروعاً خاصاً بي أنا وزوجي . . وهذا الأمر يقلقني كثيراً. .
فيما القلق إذن. .؟
أنا لا أضمن من سأتزوجه. . فالبشر عادة لا يتساوون في العدل أو الطموح. . أو الأمانة. .هذه أمور شائكة ومتباينة.
اختيار الزوج لا بد وأن يكون مدروساً. .
وكيف لي أن أضمن. . ؟ وبأية وسيلة أقنعك.. ؟
أقتنع بماذا.. ؟
. . . . . . . . .
لم سكوتك. . ؟ أقتنع بماذا يا زينب. .؟
بأن نتزوج.
نتزوج. . ؟ هذا مستحيل. . ألف سبب يمنع ذلك. .
ألف سبب. . ؟
نعم . . فأولاً أنا طيار حربي عراقي. .ثانياً أهلي في العراق. . ثالثاً. . خطيبتي فدوى . .رابعاً. . .
وما المشكلة في كونك طيار عراقي؟ بالعكس . . فهذه ميزة كبيرة جداً . .لأنك ستعمل هنا كطيار أيضاً. .وبراتب لا تتوقعه..
ولو أن ذلك حقيقي وواقع .. فما ذنب أهلي وخطيبتي .. ووطني .. ؟!!
سنعيش هنا معاً حياة محترمة. . وسأكون سعيدة لأنني أحبك وأثق بك. .
زينب . . هذا لن يروق إلا لعاطل يبحث عن المال. .
ومن منا يكره أن يكون ثرياً. .إن أمي ستمنحني. .
دعك من كل هذا . . أنت فتاة طيبة جداً. .ولو أنني كنت قد قابلتك قبل التحاقي بالكلية الجوية لتغير الأمر. . لكن لا فائدة.
الأمر سهل جداً يا ضاحي. .فأنت ستعمل هنا طيار أيضاً. . أعدك بذلك . . بل وأضمن لك ما هو أكثر من ذلك بكثير. .
أتعرفين . .إن أنا وافقت – وهذا بالطبع مستحيل – ماذا سيحدث لي. . ؟ ستتعقبني شعبة الاستخبارات العراقية . . وسأموت هدراً. .
مستحيل أن يحدث لك ذلك. . فرجال مخابراتنا سيُؤمنّون حياتك هنا .. بل وسيدفعون لك بسخاء إن وافقت . . (هنا أخطأت العميلة).

(بارتياب):
سيدفعون لي . . ؟ كم مثلاً. . ؟
أنا لا أعرف بالضبط. . لكنه مبلغ كبير على ما أتصور (تأكيدها كان خطئاً ثانياً).

(كان ما يزال مرتاباً):
مقابل ماذا . . ؟ أن أهرب من العراق الى أمريكا.. ؟ أم أختبئ هنا ولا أعاود الرجوع ثانية الى بغداد.. ؟

أنا لا أعرف .. لكني أستطيع أن أخمن أنك ستصير مليونيراً.

(مرتبكاً):
أتعرفين يا زينب.. ؟ لو لم تكوني عربية مسلمة لظننت بك الظنون. . ؟!!
ضاحي أنا لا أفهم في السياسة. .فقط أنا أعرف أنني أحبك. . أحبك أكثر من نفسي فلم لا نتزوج.. ؟
.. .. .. . .. . .
. .. …….. . . .
. . . … .. . . ..
ضاحي .. ؟ الى أين أنت ذاهب. . ؟ أنت لم تجيبني. .
إنس ما دار بيننا الآن. .لقد تأخر بي الوقت. .


زينب ليس اسمها الحقيقي بالطبع، فاسمها الحقيقي "جين بولان"، وهي متدرةب حديثة بإحدى مدارس فنون المخابرات، وكانت هذه أولى المهام التي كلفت بها.

صمم الطائرة المهندس ميخائيلوف سوخوي، وهو عبقري سوفييتي معروف، ساعد في تصميم الطائرة ANT-25 وكان له نصيب في بناء الطائرة RODINA قبل الحرب العالمية الثانية، كما أن طائرته الهجومية سوخوي – 2 – استخدمت إبان الحرب، وفي 24 يونيو 1956 ظهرت طائرات سوخوي ذات أجنحة مائلة للخلف، وأخرى مثلثة الجناح وكان ذلك فوق مطار توشينو، وهي من تصميم المهندس سوخوي الذي كرمته الدولة، وأطلقت اسمه على شوارعها بسائر أنحاء المدن الروسية.

كان رئيس الموساد ، عاميت،

رومانسياً . .

هادئ الطباع . .

يقرأ في الأدب الفرنسي ويحب الموسيقى الهادئة . .

وأكثر ما كان يحزنه فشله في الإنجاب . .

وهكذا انعقد مصيره على أن يبقى طوال حياته بلا أولاد . .

كشجرة بلا جذور . . سرعان ما يعطب جذعها . .

ويتهاوى . . ! !
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:11 AM   #54
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


حرباء تكساس

كان ثلثي مدة الدورة التدريبية قد مرا، وكتبت زينب / جين في تقريرها المفصل، أنها حاولت كثيراً مع حامد ضاحي، مستعينة بكل ما تملك من أدوات وإغراءات، لكنه بعد ممارسة جنسية واحدة، صارحها بأنه نادم، وبأنه أخذ عهداً على نفسه بألا يلمس امرأة قط. وتضمن التقرير أيضاً، أنها حاولت إغراؤه بالزواج فرفض، واشتدت مقاومته لشتى الحيل، وأنه "بارد محصن" لا يستجيب للجنس معها، أو العواطف. . واتجه الى الصلاة والصوم. . ويحب وطنه الى درجة الهوس وتصعب محاولات استقطابه.

لقد آثر حامد ضاحي الابتعاد عن الفتاة تدريجياً لينأى عن الخطأ، لكن مطارداتها له زادت عن الحد، فلم يستطع أمام ذلك إلا أن يخبر رئيسه بالأمر.

سيدي القائد . . أريد أن أعرض أمراً . .
ما الأمر . . ؟
يبدو أنني في مأزق كبير . . ولا أعرف كيف أبدأ.
قل كل ما عندك يا حامد.
لقد تعرفت بفتاة أمريكية . . والدها لبناني .. والتقيت بوالدتها التي طلبت مني أمرين . . أن أساعدها في التوصل الى عنوان والد ابنتها في بيروت، وهذا أمر بسيط . . أما الأمر الآخر . . وهو الذي أثار مخاوفي . . أنها كانت لحوحة في ربط علاقة عاطفية بيني وبين ابنتها . .
أكمل يا بني . .
الابنة عرضت عليّ عروضاً مغرية للبقاء في أمريكا. . والزواج منها .. وأنها على استعداد . . بل وتضمن لي حياة رغدة في أمريكا . . لأن جهاز المخابرات سيؤمن لي ذلك . . وسيدفع بسخاء في حال موافقتي.
أي مخابرات تقصد أيها الملازم أول . . ؟
المخابرات المركزية سيدي القائد.
المخابرات المركزية .. ؟
انتابتني الشكوك سيدي القائد . . وابتعدت عنها لكنها الآن تطاردني باستماتة وتزيد من عروضها.

وعلى الفور، تحدد سفره الى العراق بعد ثلاثة أيام . . وجن جنون رجال المخابرات في الموساد والـ C.I.A.، فقد أوقعهم حظهم العاثر مع شاب وطني مخلص، وكان لا بد من تصفيته قبل عودته الى وطنه، حتى لا يتشكك رجال المخابرات هناك في نواياهم، ويكون الرد المتوقع هو حرمان الطيارين الذين كانوا بأمريكا من الطيران مرة أخرى، تحسباً لأي خطر أو خيانة، فضلاً عن التحقيقات التي سيخضع لها جميع زملائه.

وفي مساء اليوم التالي – 15 مايو 1965 – خرج ضاحي ليمضي آخر سهراته بأمريكا، وعرج الى أحد النوادي الليلية برفقة زميلين له، وبينما الموسيقى الصاخبة ترج المكان، فتتراقص الأجساد في جنون، أطفئت الأنوار فجأة، ودوت طلقة رصاص واحدة تبعها سقوط جسد ضاحي . . فتدافع الجميع هاربين في ذعر، ووسط الظلام .. والزحام . .اندس القاتل بينهم، وأظهرت التحقيقات الأمنية غموض الحادث، إذ لم يكن هناك تفسير منطقي لوقوعه.

السفير العراقي في واشنطن أدلى ببيان قال فيه بأن الحادث غير متعمد، وأنه كان قضاء وقدراً.

أما الملحق العسكري العراقي، بناء على التقرير الأمني لقائد البعثة، فقد اشتم رائحة ما وراء حادث القتل.

وفي قرار فجائي حاسم، تقرر عودة بعثة الطيارين العراقيين الى بغداد، وكان ذلك قبل انقضاء المدة المقررة بشهر تقريباً.

وطار نسور الجو العرب في 18 مايو الى العراق، وطارت في إثرهم عقول رجال الموساد والـ C.I.A.، وبات واضحاً أن الفرصة الذهبية، الوحيدة، التي كانت أمامهم، ذابت في محيط عميق، وبدت كما لو أنها كانت مجرد حلم لذيذ، سرعان ما انتهى.

لكن مائير عاميت، المصدوم، أنصت باهتمام لمساعده المزعج – كاروز – وهو يقول:

إن الأمل لم يضيع بعد يا سيدي، ولا زالت هناك فرصة أمامنا .
"في دهشة": كيف . . ؟ لقد غادروا أمريكا منذ خمسة أيام.
بإمكان كروثر هلكر أن تؤثر على النقيب شاكر يوسف. .في بغداد.
بغداد. . ؟ أجننت يا رجل. .؟
لا حل أمامنا سوى ذلك سيدي الرئيس، فالأفلام والشرائط التي بحوزتنا ستجعله يركع، خاصة وقد حوّرنا العديد من الشرائط، ووضح فيها سبابه لقيادته ولحكومته، وعند سماعها سينهار بلا قوى.
وإذا فشلت معه هلكر . .؟
تبعث معه رسالة الى السماء.

وبعد دراسة مستفيضة للفكرة، اقتنع عاميت، وأقنع ميكون ونائبه رأى كلاين بها، وجيء بعميلة المخابرات لإفهامها خطوات العملية، وبأن زملاء لها بالعراق سوف يساعدونها، فأحست ببعض الخوف، ذلك لأن النقيب شاكر كان قد تخلص من تأثيرها عليه، وفقدت بالتالي خيوطها التي كانت تجذبه اليها، لكنها لم تشأ أن ترفض، ففي عالم الجاسوسية تسحق المشاعر، وتخفي رجفاتها الناعمة الجميلة، ولا يبقى سوى الهدف المنشود، الذي في سبيله يتخطى العملاء حاجز الإنسانية والرأفة، ويتحولون الى مجرد أشكال صماء كالدُّمَى، لا روح فيها أو دماء.

ومن فندق بغداد الدولي اتصلت هلكر تليفونياً بالنقيب شاكر الذي فوجئ، وضايقه كثيراً مجيئها وراءه، ولكي يأمن المشاكل التي قد تثيرها، استأجر لها شقة مفروشة ترى دجلة، بمنطقة الكرادة الشرقية الراقية، وأخذ يتردد عليها خفية، لا لأجل الجنس، وإنما لإثنائها عن فكرة الزواج، التي من أجلها جاءت الى بغداد، في تبجح أثار قلقه منذ البداية.

كان من الواضح أن العميلة التي كانت تحمل تصريحاً بالقتل، لم تيأس منه بعد، ولم تتزعزع عزيمتها، فإلحاحه عليها لتتركه وشأنه كان يريحها نفسياً، ويشفي بداخلها الإحساس المقيت بالفشل معه، وهي التي ما تعودت أن يقف أحد أمام جبروت جمالها، فتمادت في الضغط على أعصابه بكل قواها، وادعت له كذباً بأنها حملت منه، فارتبك الطيار المذعور، وعرض عليها أن يخلصها من الجنين، فبكت، ومثلت دور العاشقة التي لن تغادر بغداد، إلا ومعها طفلها، وأنها تفكر كثيراً في التصرف بحماقة وأن تبلغ أسرته وزوجته بعلاقتهما، وبالجنين الذي ببطنها، لكي تضعه أمام الأمر الواقع ويتزوجها.

شاكر . . إنه ابننا الذي لا ذنب له. .أريد أن يجيء الى الدنيا . .وأن يعرف أبوه . .
قلت لكِ إن صديقي الطبيب سينهي هذا الأمر.
لكنني أريده . .وأحلم كثيراً باليوم الذي أكون فيه أماً.
هذا أمر يخصك وحدك. . أما أنا فلا أريد منك أطفالاً.
ألهذا الحد تكرهني يا شاكر ..؟
أنا لا أكرهك بقدر ما أكره تفكيرك الغبي .. أتظنين بأن تصرفك سيحل المشكلة. .أو يقربني منك. . ؟
أنت تعرف منذ البداية بأنني رومانسية. .وساذجة بلا تجارب. .
عرفت قبلك مئات النساء.. أنت تفوقِت عليهن جميعاً خبرة في الفراش فكيف تكونين ساذجة. . ؟ وبلا تجارب. .؟
كُنّ مومسات أما أنا فلا . .
كروثر أمامك خيارين لا ثالث لهما مهما حاولتِ أو لوحتِ بتهديداتك التي لن تفيد. فإما أن يراكِ الطبيب. .أو تغادري بغداد على الفور.. وإلا سأكون عنيفاً معكِ وأضطر لإبلاغ الأمن بمطارداتك لي . .
وماذا أيضاً. .؟
هذا آخر ما عندي.
ألا تخشي أن أخبر عائلتك. . ؟
تهديدك لن يخيفني. .وأعرف جيداً كيف أسوي الأمر مع عائلتي.

ولما رأت منه تصميماً على المقاومة، وأنه سيضطر لإبلاغ السلطات ضدها، ضحكت وقالت له فلتأت السلطات، فعلى الأقل ستكون الفضيحة رسمية، وستتدخل سفارة بلدي، وستفقد وظيفتك ورتبتك في الحال.

كانت لهجتها معه قد تحولت من لهجة عاشقة الى تهديد سافر، وسألها شاكر عما تمسكه ضده لكي تكون بمثل هذه الجرأة، أخبرته أنها تملك تسجيلا بصوته يعترف فيه بأنه يكره العراق، ويحتقر قيادته في سلاح الطيران، ودفعت اليه بجهاز تسجيل صغير، فاستمع الى صوته وهو يسب ويشتم، فامتقع لونه، واضطربت عضلات وجهه، وصفعها بقوة أوقعتها على الأرض وصرخ فيها بأن هذا الشريط مزيف، وبأنه لم يقل ما جاء به، وصفعها ثانية بشدة، فتأوهت وقامت متحفزة تكشر عن أسنانها كأنها لبؤة تدفع الخطر عن أشبالها، وبصوت هو أقرب الى فحيح الأفعى قالت:

اشتر حياتك ولا تكن أحمقاً. . إنها الفرصة الأخيرة التي أمنحها لك. .فلنتزوج وتأتي معي الى أمريكا، وسيدفعون لك مليون دولار. .
من هؤلاء الذين تتحدثين عنهم..؟
منظمة السلام الدولية، إنها منظمة تسعى للسلام بين العرب وإسرائيل.

صفعها للمرة الثانية وقد تملكه الغضب:

أيتها العاهرة اللئيمة. . ألهذا إذن جئتِ ورائي . . ؟
مليون دولار يا شاكر. .ستعيش مليونيراً طوال حياتك. .

انهال عليها ضرباً فكانت لا تكترث وتردد:

لا تكن مجنوناً . . سأزيد الثمن الى مليوناً ونصف . . شاكر . .
مع من تعملين يا أقذر عاهرة . . ؟
سيقتلون إبنك وعائلتك. . سيدمرونك. . فأعوانهم يملأون بغداد. .
ماذا تريدين بالضبط. . ؟
اريدك أن تنضم الى المنظمة. . إن المال لا يهمهم. . عشرات الأفلام وأنت تعاشرني سجلوها لنا. .وشرائط الكاسيت بصوتك وأنت تسب قيادتك بين أيديهم. .سيقتلونك بالطبيء إن رفضت.
أرفض ماذا يا حرباء تكساس اللعينة. .؟
الانضمام الينا. .
سأبلغ عنك السلطات. . فهذه محاولة لابتزازي وتهديدي. . بل خطة لتجنيدي لصالح جهات أجنبية، والأفلام العارية التي بحوزتكم أريد منها عدة نسخ لأوزعها على أصدقائي ليروا مدى فحولتي . .!!
أهذا قرارك الأخير . .؟
نعم. . وقبلما أسلمك للأمن . . خذي مني هذا . .

وسحب حزام بنطلونه وأخذ يضربها بعنف . . وكان يتعجب، فضرباته كانت قوية مؤلمة، في حين أن صراخها يكاد ألا يُسمع . . وفي غمرة ثورته انفتح باب الغرفة فجأة، وأطلق عيزرا ناجي زلخا وزميلاه رصاص مسدساتهم الكاتمة للصوت، فسقط جسد شاكر يوسف، وعيناه ترمقان أبناء وطنه الثلاثة في حسرة وألم. .

وبينما كانت كروثر هلكر تعد حقيبة ملابسها على عجل، انشغل الآخرين بإزالة آثار البصمات، ثم جرُّوا جثة ضحيتهم لأسفل السرير، ملفوفة ببطانية، "شرشف"، وغادروا الشقة فرادى.

انتهت بذلك العملية المأساوية، وبهدوء شديد طارت هلكر الى لندن مساء اليوم نفسه، لا تصدق ما حدث، وكانت خطوط ضربات الحزام على جسدها المتورم تؤلمها، وحرمتها النوم تلك الليلة في الفندق. حيث طُلب منها الانتظار بلندن، التي لم تغادرها بعد ذلك أبداً.

وبفشل عاميت المزري، وخيبة الأمل التي منيت بها الموساد والـ C.I.A.، خيم اليأس على الجميع، وساد طقس مشحون بقتامة حالكة، تنذر بالتشاؤم، وتبعت رجفة قلوقة تهز العقول المرتبكة، التي آلمتها الضربات الفجائية المؤثرة.
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:12 AM   #55
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


حديث المنجمون

لم تكن لعبة حظ أو صدفة غير متوقعة، تلك الأحداث التي أزهقت مخططات الموساد، وأفشلتها. فالمخابرات العربية لم تكن بمنأى عن تطورات عالم الجاسوسية، وحرفية الحروب السرية، ذلك أن الظروف قد تهيأت لها، من خلال أدمغة رجال مهرة، واصلوا العمل متوسلين العلم، وفنون عالم المخابرات، واستراتيجيات التكتيك والتحدي، يحفهم إيمان راسخ بصدق قضيتهم في مواجهة عدو غاصب، لم يدخر أية وسيلة إلا واتبعها، لاصطياد الخونة من ضعاف النفوس، والدفع بعملائه ذوي الخبرة والتدريب المتمرس، لاختراق أمن الدول العربية.

وبسقوط إيلي كوهين ولوتز، والعشرات غيرهما، خلال فترة محدودة جداً، كانت النتيجة المرجوة قد أثمرت، عندما اهتزت أعصاب جوسيس الموساد، المبثوثون في العواصم العربية، وضباط حالاتهم تماماً كما حدث مع مائير عاميت، الذي كان يفوقهم ارتباكاً، وتخبطاً.

ففي الوقت الذي توّج فيه اليأس عاميت، جاءته ضربة جديدة من الداخل، من إسرائيل نفسها، عندما رجع إيسير هاريل الى السلطة في سبتمبر 1965، مستشاراً لرئيس الوزراء في شؤون الاستخبارات، وقصد ليفي أشكول من وراء ذلك، أن يحقق تفوقاً على منافسه بن جوريون، بعودة هاريل الى الأجهزة السرية، بعدما ألقى في كومة النفايات، ليعيد التوازن الطبيعي بين نشاطات الأجهزة واختصاصاتها، وليضبط إيقاع النشاذ في الموساد، للحد من اندفاعات عاميت الغير مأمونة.

وبشكل صريح، تجاهل رئيس الوزراء احتجاجات عاميت، بشأن هاريل، عندما أعلن رفضه التعامل مع مستشاره الاستخباراتي، الذي انتقد إدارة الموساد بشدة بسبب عملياتها في الخارج، ملقياً اللوم على عاميت فهو – على حد زعمه – يفتقر الى خبرة رجل المخابرات المحنك، ولا يستقرئ الأحداث من قبل وقوعها.

وأمام رفض عاميت التعامل معه، لجأ هاريل الى علاقاته الشخصية داخل الموساد، مستعيراً ملفاتها السرية، متصيداً أخطاء عاميت، وعرضها على رئيس الوزراء مباشرة، بعدما يستكتب رؤساء الأقسام تحليلات تقييمية لها، مركزين على عيوبه فقط.

كان هاريل قد ندم كثيراً على استقالته، في أعقاب عملية دامو كليس الفاشلة عام 1963، وهي قضية العلماء الألمان في مصر، واستناداً الى مصادر عديدة، فقد آلمه اختيار عاميت ليخلفه، ورأى أنه من الصعب عليه أن يقبل ذلك، فسعى باستماتة لإزاحة عاميت، وكان الصراع بينهما – كما قال إسرائيل ليور المستشار العسكري لأشكول – يشبه الى حد كبير صراع يأجوج ومأجوج.

لقد كان على عاميت أيضاً أن يناضل، فهو يريد أن يصنع له تاريخاً، وأن يتبنى عمليات مخابراتية تردد اسمه على مدى التاريخ، لكن مساعده ياكوف كاروز – خادم هاريل الأمين – كان يقف له بالمرصاد، ويسرب أسراره الى هاريل أولاً بأول، ليستخدمها ضده فيما بعد. ووصلت المواجهة الى قمتها في نوفمبر 1965، عندما انكشفت قضية بن بركة وهي من أخطر القضايا التي واجهت المخابرات الإسرائيلية، منذ فضيحة لافون في مصر عام 1954. إذ ظهر تورط الموساد في خطف بن بركة وقتله.

اثارت فضيحة بن بركة تحقيقات داخلية في الحكومتين الإسرائيلية والفرنسية، وطالب إيسير هاريل بإقالة عاميت أو استقالة أشكول، لكن محاولاته باءت بالفشل، وأدت الى تزايد هوّة الخلاف مع عاميت وأشكول على حد سواء.

خلال تلك الفترة، كانت المخابرات المصرية قد اقتفت أثر النقيب طيار عباس حلمي، وتوصلت لمخبأه في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس، ثم اعتقلته بأحد "البيوت الآمنة" الى أن تمكنت من تهريبه سراً، وإعادته في صندوق الى القاهرة لمحاكمته وإعدامه.

كان الطيار الهارب دائماً تحت أعين رجال الموساد هناك، ولما اختفى لفترة طويلة حاولوا عبثاً أن يعثروا عليه، وجاء ذلك متأخراً، فقد كان وقتها بالقاهرة يخضع لتحقيقات أمنية لا أول لها من آخر، وتسرب الخبر لتنشره بعض الصحف الغربية، وتلزم القاهرة الصمت دون أن تنفي أو تؤكد، حفاظاً على العلاقات الدبلوماسية بين مصر والأرجنتين.

وكان وقوع النبأ على عاميت كالصاعقة، وأسرع باستدعاء المنجمة العجوز "يَشّا"، فنظرت اليه في إشفاق وقالت:

ضخ ما بفكرك لـ "فاردي" وانسى ما مضى.

دهش عاميت لما تقول المرأة، فما كان بالفعل يفكر به لهو الجنون بعينه، ولم يشأ أن يطلع عليه إنسان قط.

فمع النحس الذي لازمه طويلاً ويرفض أن يغادره، فكر عاميت في عملية يتفوق بها على سلفه هاريل، وترفعه الى مصاف عباقرة رؤساء الموساد، وطرأت بفكره تفاصيل العملية الخارقة، فأخذ يرسم خطواتها ويحسب نتائجها، حتى تحولت الى هدف ذو قوة دفع هائلة، تحثه لأن يتخذ خطوات نحو تنفيذها، مهما كلفه ذلك. وكانت فكرة عاميت الجريئة السفر الى القاهرة، للقاء الرئيس جمال عبد الناصر، والمشير عبد الحكيم عامر، والتباحث معهما في سرية للوصول الى حل سلمي، ينهي الصراع العربي الإسرائيلي، فتحقن الدماء، ويخف ضغط التسابق التسليحي والحربي، من أجل النهوض الاقتصادي وأمن الشعوب ورفاهيتها.

لقد أدهشته حقاً ما قالته تلك العجوز المنجمة "يَشّا"، التي كثيراً ما لجأ اليها كبار رجال الدولة في إسرائيل لكشف طالعهم، وما أدهشه أكثر أنه لم يجلس اليها مع "فاردي" سوى مرة واحدة، وكان ذلك في نهاية عام 1962، عندما كان يترأس جهاز المخابرات العسكرية "أمان". وما إن انصرفت المرأة، وإلا استدعى فاردي الى مكتبه، وحدثه بما قالته وسأله عن مرات لقاءه بها، فأوضح له أنها تلك المرة الوحيدة التي كانت بمكتبه في أمان. فتعجب عاميت للأمر، وأفضى لمعاونه بما يفكر فيه، وبرغم غرابة الاقتراح المثير فقد اقتنع به فاردي، وكان أن يشجعه ذلك على المضي قدماً لعرضه على رئيس الوزراء.

كان مائير عاميت في واقع الأمر رومانسياً هادئ الطباع، يقرأ في الأدب الفرنسي ويحب الموسيقى الهادئة، وأكثر ما كان يؤرقه فشله في الإنجاب. فقد مرت على زواجه إثنتي عشرة سنة، ولم تتقدم حالته الصحية، برغم العلاج المكثف والجراحات، وكأن مصيره أن يبقى هكذا طوال حياته بلا أولاد كشجرة بلا جذور سرعان ما يعطب جذعها ويتهاوى.

هذا الهاجس كان مؤلماً ومثيراً لشجنه، وتؤلمه أكثر نظرات زوجته الحزينة، عندما تلاطف أطفال الأقارب والأصحاب.

حتى فكرة السفر الى القاهرة كان مبعثها الخوف على أطفال الشعب اليهودي في إسرائيل، الذين سيعيشون حياة اليتم حتماً، والتشرد، طالما الحروب مع العرب ستظل مستمرة ولن تنقطع.

لقد كان عاميت يشعر بحساسية عالية تجاه اليتامى، ضحية الحروب والدمار، ويملؤه وجع يتعاظم مع التهديد الدائم بالحرب من قبل العرب، فها هو عبد الناصر يمرن رجاله في اليمن على إبادة إسرائيل، واكتظت مخازن أسلحته بأحدث ما أنتجه السوفييت من طائرات ودبابات وصواريخ. وكان من الواضح، إنه يكثف السلاح ليستدير ناحية إسرائيل، ويدكها بمساعدة سوريا والأردن، ويقذف بشعب إسرائيل الى البحر.

ويعترف عاميت بأن الرعب من الحرب تملكه لفترة طويلة، لذلك سعى الى عرض فكرته على رئيس الوزراء، ومستشاره الاستخباراتي إيسير هاريل.

وصرخ ليفي أشكول في وجهه مستنكراً، بينما كان هاريل المتحفز دائماً، هادئاً لأول مرة، وقال "إنه الجنون بعينه، أن يسعى رئيس الموساد الى الوقوع بين يدي العدو"، وأشار موضحاً أنه في حالة إلقاء القبض عليه واستجوابه في مصر، فقد يضطر الى الكشف عن أسرار لا يحلم بها المصريون.

وحاول عاميت جاهداً إقناعهما، لكن تأثير هاريل على أشكول كان ذا فعالية، وقالا إن إجراء مفاوضات مفتوحة مع مصر مسألة مغلفة بالشك، وعائقة، ومستحيلة، وانتصرا عليه في النهاية. .فسكت على مضض، وهو يعتقد بحسرة ومرارة، أنه لو طار الى القاهرة بصورة سرية، لأمكن التوصل الى تفاهم مشترك، يجنب الشعب الإسرائيلي مغبّة الدمار والاستئصال.

إلا أنه لم يكن هنالك مؤيدين لاقتراحه، في ظل ازدياد التوتر على طول الحدود مع كل من مصر وسوريا بصورة حادة، الى أن ظهرت حقائق جديدة، جاءت مصادرها من إسرائيل نفسها، ونشرتها صحيفة "معاريف" بتفاصيل نسردها كما هي. وكان ذلك في 21 أبريل 1997.

إن هذا الضابط المصري . .

ربما كان مفتوناً بناصر . .

ومن ثم فقد أراد أن يغرر بكبار الدببة الإسرائيليين . .

حتى يقدمهم حليقي الرؤوس . .

مكتوفي الأيدي . .

منكسري الأنفس . .

كهدية متواضعة . .

يكفي ناصر أن يحس بزهو أجهزته . .

وهو يرى نظرات الذل تطفر من عيونهم . . ! !
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:14 AM   #56
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


رئيس الموساد الأسير

"لا . . لا بد أن القاهرة نصبت لنا مصيدة . . فمصر لا تحب إسرائيل الى هذا الحد". . من شريكنا في المحادثات؟ .. أليس من حاول أن يعبئ أشخاصاً داخل صناديق ويرسلهم الى مصر". . "إنها قصة خيالية ومن المستحيل ألا نندهش". . "إذ قبلت مصر أن يتدخل ديجول ويضمن سلامة الوفد. . ساعتها سنصدق".

هذه العبارات التي تم ترديدها في اجتماع على أعلى مستوى برئاسة ليفي أشكول، كانت سبباً في إحباط خطة مصرية لاستدراج مائير عاميت رئيس جهاز الموساد، وتسفي دينيشتاين نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، الى مصيدة في القاهرة خلال فبراير عام 1966. وفي آخر لحظة كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية النقاب عن هذه المصيدة، لكنها حاولت من خلالها تكريس وهم مفاده أن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وافق على إجراء محادثات سرية مع مسؤولين إسرائيليين كبار، وأن مخاوف تل أبيب من تدبير "مصيدة" أعدها جهاز المخابرات المصري أفشل هذا التوجه . . اليكم القصة من البداية وكما روتها معاريف. في 21/4/1997. (1)

هذه القصة غريبة . . حيث يقوم جهاز تجسس بعمل ظاهره ليس التدبير لحرب أو عمليات عدائية سرية أو علنية، وإنما الظاهر أنه جهد للتوصل الى سلام.

بداية الخيط قام به رجل أعمال أوروبي ثري، على علاقة وطيدة بجهاز الموساد الإسرائيلي، وذلك لتجنيد مهندس ماكينات غامض وواسع الخيال، يقوم في إحدى العواصم الأوروبية، وشارك في برامج مصرية لتطوير الأسلحة.

في صيف عام 1964 اجتمع رجل الأعمال الأوروبي، بالمهندس الذي كان على علاقة بمصر، وفاجأه بالقول:

لماذا لا تدير الدفة. . وبدلاً من أن تعمل ضد إسرائيل . . تنضم اليها؟ .

ذهل المهندس المشارك في تطوير الأسلحة المصرية، وهنا انزعج العميل الإسرائيلي وسارع بتعديل اقتراحه قائلاً:

إنني لا أقصد أن تعمل من أجل إسرائيل .. ولكن أن تعرض خدماتك كوسيط بينها وبين مصر.

بانتهاء هذه العبارة أفاق المهندس (الذي رمزت اليه الصحيفة باسم ستيف). ورد قائلاً:

إن المصريين سيقصفون رقبتي لمجرد أن أطرح مثل هذا الاقتراح. .كما أن القاهرة وتل أبيب تخوضان صداماً عنيفاً حول موضوع اللاجئين.

وبعد جلسات سرية متكررة استمرت شهراً، اتفق ستيف مع العميل الإسرائيلي على أنهما سيحاولان عرض الفكرة على الطرفين.

وفور الاتفاق سافر عميل الموساد الى تل أبيب، وعرض الأمر على قادة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي. . فقرر الجهاز محاولة "إيجاد علاقة" مع ستيف، وتم اختيار اثنين من كبار الضباط، أحدهما يتصل برجل الأعمال الأوروبي "العميل الإسرائيلي" والآخر يحاول الاتصال بالمهندس المرتبط بمصر.

لكن ستيف رفض الاجتماع مع الضابط الإسرائيلي، واقترح ألا تتناول الاجتماعات موضوع اللاجئين الذي كان مثاراً في تلك الآونة، وإنما تكون ذريعتها تدخل إسرائيل لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، حتى تقدم مساعدات اقتصادية لمصر.

وفي زيارة خاطفة قام بها المهندس ستيف الى مصر، عرض الأمر برمته على الجنرال عصام الدين محمود خليل، وهو طيار تولى رئاسة شعبة المخابرات الخاصة بسلاح الجو المصري، ثم عمل بعد ذلك مديراً للمشروعات الخاصة بتطوير الأسلحة المصرية، وتقول الصحيفة الإسرائيلية:

"إن خليل تسلم هذا المنصب الحساس بعد أن قام عام 1957 بإحباط مؤامرة وقف وراءها البريطانيون لاغتيال الرئيس عبدالناصر. وتظاهر بالتعاون مع رؤوس المؤامرة وهما وزير الداخلية المصري ونائب رئيس المخابرات العسكرية المصرية . . (!!)، وفي الوقت الحاسم نقل كل المعلومات الخاصة بتدبير محاولة الاغتيال الى الرئيس عبدالناصر، وسلمه المسؤولين المتآمرين، بعدها أصبح مقرباً من الرئيس.

بعد ثلاثة أسابيع تلقى المهندس ستيف من الجنرال عصام خليل رداً بعد أن عرض الأمر على المسؤولين، قال الرد:

"لا أستطيع أن أقول لك نعم أو لا".

لكن ستيف عرض على العميل الإسرائيلي استعداده للمشروع في محادثات مع ممثل إسرائيل بشرط أن يكون رسمياً، وأن يتم اللقاء في منزل رجل الأعمال "العميل الإسرائيلي".

في بداية يناير عام 1965، عقد المهندس (ستيف) أول لقاء مع ضابط من الموساد، بغرض التعارف، وقال المهندس أنه بعد تحديد موعد اللقاء تلقى تعليمات من القاهرة بأن يحاول الانسحاب أو التهرب، وأن الجنرال عصام الدين خليل أكد له أن محدثه سيكون ضابط مخابرات.

وأكمل قائلاً:

سيحاول تجنيدك لصالح إسرائيل. . ولذا ينبغي عليك أن تكون حذراً وأن تنتهز أي فرصة لكي "تحلبه"، بدلاً من أن يحلبك هو.

وتناول هذا اللقاء الضغوط التي تمارسها إسرائيل على دول الغرب، حتى تمنع تدفق القروض الى مصر.

وفي شهر فبراير 1965، تم عقد لقاء آخر مع الضابط الإسرائيلي، بين اللقاءين توجه المهندس (ستيف) مرة أخرى الى مصر، وقال للإسرائيليين: إن لقاءاته تتم بعلم الرئيس عبدالناصر والمشير عبد الحكيم عامر، كما عرض عليهم أن تتدخل إسرائيل لدى كندا، حتى توافق على إمداد مصر بالقمح، في مقابل شراء 100 ألف بالة من القطن المصري. .

وتقول الصحيفة: إن عائد ذلك كان سيبلغ حوالي 25 مليون دولار ولم توافق عليها إسرائيل، لأن هذا العائد سيتم توجيهه الى تطوير الأسلحة المصرية التي يشرف على مشروعاتها الجنرال عصام خليل.

ومرة أخرى اتصل ستيف بالإسرائيليين، وطلب منهم أن يساعدوه في الحصول على قرض شخصي قيمته 1.5 مليون دولار لمشروعات ومصانع الجنرال عصام الدين خليل. . وبعد تقدير للموقف، وافق الموساد على الطلبين، لكنه وضع شرطاً مهماً وهو ألا تذهب هذه الأموال لأغراض عسكرية، وأن يحصل الجهاز على ضمانات جدية لاسترداد هذه المبالغ.

كان هناك سؤال يزعج الموساد . . وهو: هل لإسرائيل مصلحة في أن تجري اتصالات مع مصر بواسطة المهندس ستيف . . فعلاقاته قوية جداً بالجنرال عصام الدين خليل، كما أن أحداً لا يعرف أين ينتهي الجزء الرسمي من المهمة ويبدأ الجزء الخاص، وربما يخدع المهندس والجنرال المصري جهاز الموساد، ويخصصان الأموال التي يحصلان عليها لتطوير برامج تحديث السلاح المصري التي يشرف عليها عصام الدين خليل، وتقرر في النهاية استمرار الاتصال بستيف على شرط اعتباره مجرد وسيلة للاتصال بشخصية مصرية كبيرة.

وبدأت مطالب إسرائيل:

إطلاق سرح الجواسيس المتهمين في قضية لافون.
إطلاق سراح زئيف جور إريا، ضابط الموساد الكبير الذي دخل مصر على أنه ألماني يدعى وولفجانج لوتز، واعتقلته السلطات المصرية.
بحث عبور السفن الإسرائيلية لمضيق تيران ..
وسحب المعارضة المصرية لمشروع اقتسام مياه نهر الأردن، والذي طرحه المبعوث الأمريكي جونسون.

ولعرض هذه المطالب قرر رئيس الموساد، مائر عاميت، أن يطلب من القاهرة، ضرورة التفاوض مع ممثل مصري له صلاحيات، وليس مع وسيط، لكن مصر رفضت هذا الاقتراح.

وبعد جمود استمر عدة أشهر، عقد المهندس ستيف لقاء مع ضابط إسرائيلي في 21 من سبتمبر 1965، وروى ستيف أن الجنرال عصام الدين خليل يخشى الحضور الى أوروبا، لأنه واثق بأن العالم كله "وبخاصة إسرائيل" يبحث عنه، رغم تطمينات الموساد بأن أحداً لن يقدم على المساس به.

لكن المهندس ستيف أكد أن الجنرال عصام الدين خليل سيظهر نهاية الأمر في أوروبا بشكل مفاجئ، ونصح الضابط الإسرائيلي بأن تعطي له إسرائيل شيئاً دون مقابل، مثل قرض ببضعة ملايين من الدولارات، أو علاقة مع هيئة تمويلية، حتى يمكن للجنرال المصري دعم موقفه من الرئيس ناصر.

لكن ضابط الموساد رد عليه بالقول: "إن إسرائيل لن تعد بشيء حتى يقعد ضباط الموساد مع عصام الدين خليل نفسه".

عندئذ: وصل عصام الدين خليل فجأة الى أوروبا، وأبدى استعداده للاجتماع بضابط إسرائيلي، لكنه طلب تدبير 30 مليون دولار كقرض تطلبه مصر قبل أن يتم اللقاء. وقال إن مثل هذا الاجتماع يحتاج الى إعداد دقيق وضوء أخضر، ويمكن أن يعقد بعد هذا التاريخ بعدة أسابيع.

رجال الموساد في أوروبا قرروا أن يقوموا بعمل مفاجئ، وببساطة اتصل أحدهم بحجرة الجنرال المصري في الفندق، وعرف نفسه بأنه صديق ستيف، وأنه يريد التحدث مع خليل بخصوص القرض الذي تريده مصر.

أدرك الجنرال خليل شخصية المتحدث، وقال إن مصر تريد القرض خلال أسبوعين، فوعده رجل الموساد بأن تل أبيب ستسعى للمساعدة، لكن هناك حاجة للقاء حتى يستوضح من المسؤول المصري بعض التفاصيل.

في النهاية وافق الجنرال عصام الدين خليل، على إجراء مقابلة غير رسمية في لوبي الفندق الذي كان يقيم فيه بباريس. .

جلس الاثنان وأحاط بهما أربعة من جهاز الأمن المصري في دائرة محكمة . . وكان هذا أول لقاء، وسأل الضابط الإسرائيلي سؤالين: هل يعلم ناصر بهذه الاتصالات. . ؟ . .وماذا ينبغي على تل أبيب أن تفعله حتى تتغلب على جو عدم الثقة؟ .

قال الجنرال خليل: إنه لا يمكن أن يؤكد أو ينفي علم ناصر والمشير عامر بهذه الاتصالات، أما ما بنبغي على تل أبيب أن تفعله، فهو أن تعمل على استئناف المساعدات الأمريكية لمصر، وتساعد على حصولها على قرض قيمته 30 مليون دولار.

وطلب الجنرال عصام الدين خليل أن يحصل من إسرائيل على رسالة خطية، كما اتفق الضابطان على الاجتماع مرة أخرى بعد بضعة أيام في عاصمة أخرى بأوروبا لتسليم الرسالة المطلوبة.

أعدت إسرائيل الخطاب فعلاً بعد موافقة رئيس وزرائها ليفي أشكول، لكن خليل لم يحضر الاجتماع الذي كان مقرراً، واجتمع مع رجال الموساد في مكان آخر بعد عشرة أيام من التاريخ المحدد.

بعد فترة ظهر المهندس ستيف في الصورة مرة أخرى، وقدم خطاباً تلقاه من الجنرال خليل يعينه فيه ممثلاً لشركته، ويفوضه بتوقيع عقود بدلاً منه.

في هذه المرحلة أوصى رجال الموساد في أوروبا، بأن يدخل رئيس الموساد بشحمه ولحمه الصورة. . ووصلت برقيتهم الى إسرائيل الساعة الواحدة والنصف صباح الأول من فبراير عام 1966، وبعد بضع ساعات أقلت مائير عاميت طائرة خاصة الى أوروبا، وبعد الظهر كان يجلس أمام الجنرال محمود خليل في فيلا يملكها المهندس ستيف.

وتقول الصحيفة الإسرائيلية، إن خليل عندما سمع أن شريكه في المحادثات هو الجنرال عاميت، اجتاحته شكوك ومخاوف من احتمال أن يحدث استفزاز له، أو أن يتعرض لعملية اختطاف، لذا كانت هناك حاجة الى تدابير أمنية منها تقديم موعد الاجتماع بشكل مفاجئ لمدة ساعتين.

ويروي أحد من حضروا هذا اللقاء، أن خليل كان يبدو خلال الاجتماع في كامل وجاهته مفعماً بالنوايا الحسنة. . ظل (لعدم علمه بما ينبغي أن يفعله) يمطر الحاضرين بالابتسامات والنكات والربت على الأكتاف.

قال عاميت أنه ينبغي إزالة الشكوك المتبادلة قبل الخوض في أية مواضيع، وأن ما سيتم التوصل اليه سينفذ نصاً وروحاً.

وعلق خليل قائلاً: إذا ما علم أمر هذه الاتصالات فسوف يكون ذلك كارثة حقيقية.

وعرض رئيس الموساد مقترحات إسرائيل. . ومنها أنها مستعدة لمنح مصر قرضاً قيمته 30 مليون دولار عن طريق بنك أوروبي بضمان مجلس القطن المصري . . ومستعدة لوقف الـ "سبوتاج" الذي تقوم به ضد مصر في الولايات المتحدة ودول أخرى.

في مقابل ذلك تطالب مصر بإعادة النظر في مشروع جونسون، وإقامة خط ساخن للاتصالات، وخفض الدعاية المضادة لإسرائيل.
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:15 AM   #57
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


نظرات الذل

استغرق الاجتماع ثلاث ساعات، عاد بعده خليل الى مصر، وأرسل ردوداً إيجابية عن طريق المهندس ستيف، بعد أن أجرى مناقشات طويلة مع المشير عبد الحكيم عامر، الذي نقل موجز هذه المناقشات الى الرئيس ناصر (كما تزعم الصحيفة).

وأعلن المصريون استعدادهم للإفراج عن جواسيس فضيحة لافون، كما ردوا إيجابياً على نقاط أخرى، لكن أهم ما في الموضوع، هو وجوب أن يعقد اللقاء الختامي ما بين مائير عاميت رئيس الموساد، والجنرال عصام الدين خليل، فقي القاهرة بدلاً من أثينا. وكانت الحجة أن عبد الحكيم عامر يخشى على حياة عصام خليل، ومن هنا نبت اقتراح أن يأتي عاميت ومرافقوه الى القاهرة بجوازات سفر مزورة، وأن ينزلوا في فيلا خاصة كي يلتقوا فيها بخليل والمهندس ستيف!!

بدأت المناقشات بين قادة إسرائيل حول هذا الموضوع حتى قبل عودة عاميت الى تل أبيب. أولى هذه المناقشات تمت يوم 3 من فبراير بعد اجتماع رئيس الموساد مع الجنرال المصري بيومين، اشترك في المناقشة ليفي أشكول رئيس الوزراء، سابير وزير الخزانة، جولدا مائير (سكرتيرة الماباي في ذلك الوقت)، تسفي دينيشتاين نائب وزير الدفاع. . أجمع الكل على أن الأمر "أجمل" من أن يكون حقيقاً، لكن هذا الاجتماع لم يصل لشيء فرئيس الموساد الذي عاش الأحداث لم يكن موجوداً!

وفي الثامن من فبراير هبط عاميت من طائرته في تل أبيب واتجه مباشرة الى مكتب رئيس الوزراء . . وأعد أثناء وجوده في الطائرة ورقة موقف، كما اقترح تشكيل الوفد الذي يتجه الى القاهرة بعد أسبوع "15 فبراير" من رئيس الموساد، ورجل الاتصال العميل للموساد ودينشتاين نائب وزير الدفاع.

عندما وصل عاميت الى مكتب أشكول وجد هناك إيسير هاريل، المستشار الخاص للمخابرات والأمن وسلفه في رئاسة الموساد، وعاد يافيه المستشار السياسي، ودينشتاين نائب وزير الدفاع، ثم انضم الى النقاش بعدها الوزراء: بنحاس سابير، ويسرائيل جاليلي، وزالمان آران، إضافة الى آرييه لفافي مدير عام وزارة الخارجية.

وجد رئيس الموساد جواً معادياً ومتحفظاً من المشاركين في الاجتماع.. قاد المعارضة إيسير هاريل الذي قال إن لمحمود خليل حساباً دموياً مع إسرائيل (بسبب إضرارها واعتدائها على العلماء الألمان) وأن الضمانات ليست كافية، ومن يدري إذا لم يكن خليل قد جاء الى ناصر قائلاً له: سأتي لك برئيس الاستخبارات الإسرائيلية، وأن الستار سوف يكون الحديث في قرض.

وبما أنه ليست هناك ضمانات كافية تكفل أمن وسلامة الوفد الإسرائيلي، فإنه لا ينبغي السفر مطلقاً الى القاهرة، وبخاصة أن الذين سيسافرون يحتفظون بأدق وأهم أسرار الدولة. إنه سيتلقى شخصية غامضة للغاية ومشكوكاً فيها، علاوة على أنه نصاب دولي (يقصد ستيف).

وكان اعتراض إيسير هاريل على السفر الى القاهرة، ينبع بصفة خاصة من احتمال أن تكون هناك مصيدة، وتساءل سابير عن سبب عدم الالتقاء في دولة أخرى. . وقال زالمان آران: "لو كان هذا الأمر جاداً لما اقترح المصريون عقد هذا الاجتماع بالقاهرة، الى هذا الحد تحب مصر إسرائيل، وتريد حضور وفد لها للقاهرة. . ؟ وإن كان لا بد هل يسافر الى القاهرة أناس من نوع مائير عاميت أو تسفي . . ؟ إن العالم لم ينجب بعد الشخص الذي لا يمكنه أن يعترف بكل شيء إذا تعرض لعمليات ضغط وتعذيب. . (!!) ومن هذا الشريك في المحادثات . . ؟ إنه ذلك الذي عبأ أشخاصاً داخل صناديق ليرسلهم الى مصر فعلى أي أساس نصدقهم؟؟

وكان الوحيد الذي أبدى حماساً للفكرة، هو الوزير جاليلي، إلا أنه كان يخشى هو الآخر فكرة السفر حيث قال: "إنها قصة خيالية ومن المستحيل ألا نندهش، إن فكرتهم في حد ذاتها لدليل تقدير لقوتنا، إنني أقدر جداً السفر الى القاهرة ولكن من المستحيل السفر الى هناك بدون اتخاذ تدابير أمنية ودون أدلة تثير الثقة، من ذلك على سبيل المثال الإفراج عن السجناء قبل الزيارة".

وحاول عاميت إقناع المشتركين بأنه أطلع على نوايا المصريين من خلال اتصالاته مع خليل. فقد قال لهم: إنه لا يعتقد أن المسألة مجرد لعبة.

وقال رئيس الموساد: "إنه من الممكن قتل هذا الموضوع وهو في بدايته ولن يحدث شيء، ولكن أرى أن علينا أن نتخلص من الخوف من حدوث مخاطرة، وأن نزيح جانباً موضوع النقود وأن نمسك الثور من قرنيه".

وعقب جاليلي على قوله ساخراً: "لكن القضية تكمن فيما إذا كان هذا ثوراً أم تيساً؟" فأجابه عاميت: "أعتقد أنه ثور".

وقال رئيس الحكومة، أنه شخصياً لا يخطر بباله، أن ثمة خطر على حياة الأشخاص الذين سيسافرون، لكنه خلص الى استنتاج على ضوء ما قاله المشتركون، وما أعربوا عنه من إحساس مؤداه أنه ينبغي أن يعقد لقاء آخر خارج مصر.

واستمرت المناقشات الى اليوم التالي بتشكيل مختلف بعض الشيء، وهناك ورد تبرير آخر خيالي يكشف الى أي حد وصل اليه المعترضون من تفكير وهو: "ماذا سيحدث إذا ما أفرج المصريون عن أناس آخرين غير السجناء اليهود؟"

وأخيراً تمت بلورة الرد والاقتراح التالي الذي سيعرض على مصر وهو: إن إسرائيل سوف تودع 30 مليون دولار في حساب خاص في سويسرا كدليل على نواياها الإيجابية، وأن يبلغ ستيف، بأنه قد تقرر عدم الحضور الى مصر، وإن إسرائيل تقترح عقد لقاء آخر بدلاً منه في أوروبا، وأن إسرائيل تطلب مجيء الجنرال خليل في 15 من فبراير لعقد اجتماع معهم في أوروبا، على أن يبلغ بأننا مستعدون للمجيء مستقبلاً الى مصر، إلا أن هناك مشكلة الضمانات، وتقترح إسرائيل أن تقدم الضمانات بواسطة الرئيس الفرنسي ديجول، وأن يبلغه ناصر بأن وفداً إسرائيلياً سوف يصل الى القاهرة، لإجراء مباحثات حول موضوع العبور في قناة السويس، وأن يكون ناصر، شخصياً، مسؤولاً عن سلامة الوفد، وعندما تتلقى إسرائيل تأكيداً من ديجول على أن مثل هذه الرسالة قد وصلته من ناصر، يمكن للوفد الإسرائيلي أن يذهب الى القاهرة.

وتوجه عاميت بالرد الإسرائيلي الى أوروبا، ونقل هذا الرد الى ستيف، وطلب اليه أيضاً نقل رسالة الى الجنرال خليل بأن الجنرال عاميت يريد مقابلته مرة أخرى الى أوروبا.

أعرب ستيف عن خيبة أمل كبيرة إزاء القرار الإسرائيلي بعدم السفر الى القاهرة، وقال إن هذا القرار يعد تراجعاً كبيراً من جانب إسرائيل.

ومن هنا أخذت القضية تموت شيئاً فشيئاً، ولم يفد في إنقاذها من الموت حتى الرسالة الخطية التي سلمها عاميت لستيف، والتي تتضمن بالإضافة الى بنود الاقتراح الإسرائيلي بشأن القرض، إطلاق سراح السجناء اليهود وغيرها، والتي ذهب ستيف شخصياً الى القاهرة ليسلمها للجنرال خليل، وعاد ستيف من هناك مكتئباً قائلاً أن الرسالة أغضبت جداً خليل الذي قال له، إن إسرائيل قد جعلته موضع سخرية القائمين، الذين ظلوا يقولون له طول الوقت أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى خدعة إسرائيلية قذرة.

وأضاف ستيف أن المصريين أصبحوا الآن يتشككون بأنه يتعاون مع الإسرائيليين، بل إن الجنرال خليل قال إنه غير مصدق أن الرسالة التي نقلها ستيف اليه كتبها عاميت بخط يده.

ولأن اصطياد الذئاب الكبيرة تم إفشال خطته في آخر لحظة، لم يكن أي شيء آخر مهماً لدى مصر، لذلك تم وقف كل شيء وألغيت دعوات زيارة القاهرة.

وخلال الأشهر التالية، حاول عاميت أكثر من مرة أن يجرب قناة ستيف مرة أخرى، ولكن دون جدوى.

وآخر مرة حاول فيها رئيس الموساد ذلك كان يوم 19 من مايو 1967 قبيل حرب يونيو . . فقد بعث برسالة عاجلة الى خليل، وطلب منه أن ينقل لعبد الناصر رسالة تهدف الى إزالة التوتر ومنع نشوب حرب، لكن كل ذلك لم تكن له جدوى، فقد أفلتت الرؤوس من المشانق، وبعد ثلاثة أيام من الرسالة أعلن ناصر إغلاق مضايق تيران، ثم بدأت حرب يونيو 1967 بعد هذا الإعلان بأسبوعين.

إن هذا الضابط المصري ربما كان مفتوناً بناصر، ومن ثم فإنه أراد أن يغرر بكبار الدببة الإسرائيليين حتى يقدمهم حليقي الرؤوس، مكتوفي الأيدي، منكسري الأنفس، كهدية متواضعة، يكفي ناصر أن يحس بزهو أجهزته وهو يرى نظرات الذل تطفر من عيونهم.

"انتهى ما جاء بالصحيفة الإسرائيلية".


يقصد الجاسوس مردخاي لوك الذي حاول المصريون تهريبه من روما الى القاهرة داخل صندوق.
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:22 AM   #58
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


حارسات الهيكل

الإخفاقات المتتالية لعملية تجنيد طيار عربي، أذهبت بروعة الحلم الذي راود الإسرائيليون والأمريكان كثيراً، وجعلت منه صورة باهتة المعنى مهتزة الملامح. بالرغم من ورود معلومات جديدة من بغداد، تفيد بأن العراقيين لم يكتشفوا بعد سر اغتيال الطيار شاكر، ولم تراودهم شكوك مؤكدة حول مقتل ضاحي في تكساس، بدليل أن طياري الميج 21 الذين كانوا بأمريكا، لم يحرموا من قيادة طائراتهم، أو يستبعدوا كاحتياطات أمنية الى قواعد أخرى بعيدة.

وفي غمرة صراعات مائير عاميت مع نفسه وافتقاده لصديقه العزيز جون ميكون ، وتصاعد حدة الخلافات مع إيسير هاريل، وصلت برقية مشفرة من أوروبا، تفيد بوجود طيار عراقي، يقضي أجازة ترفيهية بمفرده في فرانكفورت. فلم يجتاحه ذلك الإحساس الذي غمره من قبل، عندما أخبره جون ميكون بأمر الدورة التدريبية للطيارين العراقيين. وكل ما فعله عاميت، أنه كتب لمفرزة الموساد في أوروبا لعمل اللازم، وعدم إثارة مشكلات مع السلطات الأمنية في ألمانيا. ففضيحة اشتراك الموساد في قتل بن بركة، كانت ما تزال أصداؤها تتردد، وساءت بسببها العلاقات الفرنسية الإسرائيلية، بشكل حاد.

إلا أن ياكوف كاروز اعترض بشدة، وقال لعاميت إن ذلك يعرض رجالهم في أوروبا للخطر، إذا ما فشلوا في إنجاز المهمة، أو تخوّف الطيار العراقي وأبلغ الشرطة.

وفي اجتماع مصغر، اتفقت الآراء مجتمعة، على أن يغادر إسرائيل فريق عمل، يضم أمهر رجال الموساد، يستطيعون من هناك وضع خطة لتصيد الطيار السائح وإغراؤه بالمال، بناء على الظروف المتاحة، على أن يراعي تلاشي أية أخطاء، قد تنجم عنها أزمات هم في غنى عنها.

وغادرت تل أبيب فرقة العمليات الخاصة، لإنجاز المهمة السرية الدقيقة، ولأنها رغبة عليا، أحيط أعضاء الفريق علماً بأن نجاح العملية، سيحقق أقصى درجات الأمن والحماية لإسرائيل، وأنهم يأملون في ذلك مهما تكلفوا من أموال، وتولى كاروز مسؤولية عمل الفريق ومتابعته في تل أبيب.

أفادت التقارير التي وردت من فرانكفورت، أن الطيار العراقي يستمتع بأجازته الى حد الهوس، ويقضي غالبية وقته ما بين البارات، وبين الشوارع المشهورة ببيوت الدعارة، كما لوحظ إهماله للمحاذير المتعارفة لحماية أمنه الشخصي، ففي حالات سُكْره لا يتورع عن المباهاة بوضعه كطيار حربي، وسرد أسرار عسكرية هامة تمس سلاح الطيران العراقي، وقادته، مما أثار انتباه رجال السافاك في ألمانيا، الذين بدأوا يحومون حوله.

ملحوظة أخرى هامة تضمنها التقرير، تشير الى ولع الطيار العراقي بالنساء، وسلوكه الغريب نحوهن، إذ لا يصادق فتاة يوماً بأكمله، لأنه يهوى التنوع، ويفضل الفتيات النحيلات ذوات الصدور النافرة.

معلومة كهذه لا يمكن لرجل استخبارات ملاحظتها، إلا إذا كان واسع الخبرة فائق الذكاء. فرجل عادي لو أتيح له أن يكتب تقريراً كهذا، لأوضح أن فلاناً متعدد العلاقات، أو دائم البحث عن فتيات جديدات، أو لا يفضل الاحتفاظ بعلاقات نسائية طويلة.

وفي عالم المخابرات والجاسوسية، يهتم الخبراء بأبسط التفاصيل وأقلها، ففيها مفاتيح تحليل الشخصية، وإجابة عن السؤال الهام: كيف سيتم التعامل مع شخص كهذا. . ؟وما هي رخصة اقتحام ذاته من الأغوار . . ؟ لقد كان الطيار العراقي إذن من مدمني الخمر والنساء، وهذا النوع من الرجال يسهل احتوائه، والسيطرة عليه، بواسطة فتاة رائعة الأنوثة والإثارة، تفوق جملة ما عرفهن من قبل.

إن تاريخ اليهود القديم مليء بقصص الجاسوسية التي حفلت بالجنس، ودور المرأة في العمليات السرية التي خدمت أهدافهم ومصالحهم، ومنذ قامت الموساد عام 1937 اعتمدت عمل المرأة بجسدها، وأقامت لذلك مدرسة خاصة لتدريب فتياتها على فنون التجسس والسيطرة بالجنس، وأساليب تفكيك الإرادة لدى المطلوب تجنيدهم، وبرعت في ذلك نساء عديدات، كن العامل الأساسي لإنجاح عمليات الموساد في تصيد الجواسيس، وصنفن على أنهن دُرر "فدائيات نجمة داود"، و "حارسات الهيكل" .

وكان إيسير هاريل أول رئيس للموساد، يتوسع في استخدام النساء المدربات، للقيام بمهام تجنيد الخونة، معتمداً على نسوة جميلات ماهرات، آمنّ بأهمية العمل "المقدس" في سبيل إسرائيل.

ومن بعده جاء عاميت، الذي قال في ذلك: "نحن نستخدم النساء، ذوات الصفات الخاصة جداً، في المهام التي تستدعي ذلك، فالمرأة ذات فوائد عظيمة في عمل المخابرات، فهي لا تثير الشكوك حولها، ويوحي تواجدها مع زميل بأنهما زوجان أو عشيقان، فلا يجذبان انتباهاً في عمليات المراقبة".

ويضيف: "وتقوم الموساد باستخدام المرأة في نصب المصائد الجنسية، ولمرة واحدة فقط، أحياناً، حيث توظف الموساد الجنس كأهم الأسلحة في عملياتها السرية، وإنه لتصرف شائع، أن يتم استخلاص المعلومات من الجواسيس والمخبرين العرب، الذين تديرهم الموساد أو أمان، بأخذهم الى مكان هادئ، فيكافأون على عملهم بتوفير الفتيات لهم، ويتم تصوير ممارساتهم لاستخدام الصور للضغط الابتزازي، لضمان ولائهم لإسرائيل". !!!

ولا عجب أن تصل شهرة بعض نساء الموساد الى الآفاق، لإجادتهن فنون السيطرة، ونزف أجسادهن تضحية وحباً في أرض الميعاد. ومن أشهر هؤلاء النسوة المدربات المحترفات، يولاند هارمور التي ولدت في مصر، وسيلفيا رافائيل التي اشتركت في تعقب الفدائي الفلسطيني علي حسن سلامة، وكانت من بين المعتقلين من رجال الموساد في النرويج، إثر فضيحة ليليهامر في يوليو 1973.

أما شولا كوهين ، فكانت أسطورة الجنس بحق، إذ تمكنت بفضل جسدها المثير من تأسيس شبكة جاسوسية خطيرة في لبنان، وتستحق بلا مبالغة لقب "ماتاهاري" إسرائيل ، الى جانب هؤلاء كانت هناك أيضاً سارة أرونسون وليلي كاستيل ومئات الأسماء التي تزدحم بها ملفات جهاز المخابرات الإسرائيلي، لنساء يهوديات عملن بإخلاص لنصرة الصهيونية، وانتصرن في حروبهن على أسرِّة الخونة.

ترى من منهن أرسلت الى فرانكفورت، لإذابة الطيار العراقي محمد رغلوب . . ؟
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:25 AM   #59
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


صائد الغزلان

غادر صالة مطار فرانكفورت، وخرج من الباب الدوار المطل على الساحة، لتلفحه نتف الجليد المتساقطة، وبرودة الطقس التي سجلت ثلاث درجات تحت الصفر. وبإشارة سريعة توقف التاكسي، فترك السائق يعبئ حقائبه ودلف الى السيارة تصطك أسنانه، برغم البالطو الثقيل المبطن بالفرو، الذي يرتديه فوق ملابسه.

كان الطيار العراقي قد بذل محاولات مضنية، ليحظى كالعادة بأجازة يقضيها في فرانكفورت بمناسبة الكريسماس، لكن المسألة لم تكن سهلة أبداً، ولأول مرة منذ سنوات، يحرم من بهجة الاحتفالات في المدينة العريقة الرائعة، ويحصل بما يشبه المعجزة على أجازة، تبدأ في 12 يناير 1966، فيغادر بغداد حانقاً وقد عقد العزم على استغلال كل لحظة في التمتع، تعويضاً لحرمانه من مغادرة العراق طوال عام كامل.

لقد عشق تلك المدينة الساحرة، عروس نهر الراين، منذ رآها لأول مرة أثناء عمله كطيار مدني، بشركة الخطوط الجوية العراقية، وتردد عليها كثيراً وكأنما ربطته بها علاقة حب آثرة، تذكي بداخله عاطفة اللهفة كلما غاب عنها.

لذا . . فقد حفظ الشوارع والمتاجر والحدائق، ورسم بعقله أزقتها ومقاهيها، ونوادي الليل والدعارة التي تجتذب روادها من سائر القارات، للاستمتاع بالرقص، وبفتياتها الجميلات الساحرات اللائي جئن من أوروبا وروسيا، يعرضن فنون الإثارة والجاذبية.

هكذا جمعت المدينة الكبيرة كل ثقافات العالم، تتلخص في زوار متباينو الميول والأيديولوجيات، فكان ذلك مدعاة لانتشار عملاء أجهزة الاستخبارات المختلفة، شرقاً وغرباً، يتربصون بأولئك الذين تصنعوا الوقار في بلادهم، وجاءوا الى فرانكفورت بثياب المجون. ومع هذا الازدواج في الشخصية تطفو نقاط الضعف، فيستغلها صائدو الجواسيس بمهارة، ويجرجرون ضحاياهم من حيث لم يدروا، الى مستنقع الخيانة، وعالم الأسرار والغموض والعجائب.

كانت الساعة تقترب من الخامسة صباحاً، عندما توقف التاكسي أمام فندق بريمرهافن، وترجل محمد رغلوب في دعة، ومن خلف زجاج نافذته بالطابق التاسع ألقى نظرة على المدينة الساهرة، حيث كانت الأضواء تتلألأ على ضفتي الراين، والجليد يغطي الأشجار والأسطح والشوارع، لكن مواخير الفسق لا تعرف الجليد، فحرارة الأجساد والرغبات حارقة. . لاسعة . . مؤججة.

ارتمى رغلوب يسعى لنيل قسط من الراحة، حتى يتهيأ للاستمتاع بأجازته، ينغص عليه بهجته ضآلة المبلغ الذي تمكن من تحويله بواسطة البنك، نتيجة القرارات الاقتصادية التي أُقرت أخيراً في العراق، وقيدت الى حد كبير استبدال العملة خارج البنوك، ففتحت مجالاً أوسع للسوق السوداء، الذي لم يتمكن رغلوب من اللجوء اليه لضيق الوقت. ونام مرهقاً ينتظر اليوم الجديد، مستعرضاً في خياله لياليه الأسطورية في ألمانيا الغربية، وفتيات عرفهن من كل لون، مائسات، حمر الخدود، براكين صهدهن في الشفاه، إذا تأودن رقص النعيم منجرفاً، وضج لرنات همسهن الجمود.

كان يمني نفسه بمغامرات جديدة، ووجوه لم يألفها من قبل، فلذة الاستمتاع عنده تتعاظم إذا ما تصيد وجهاً جديداً، وما أكثر ما كان يبحث عنه وأسهله. فبعد أيام قلائل في فرانكفورت، غرق الطيار العراقي لآخره في بحور الخمر والنساء، الى أن أوقعه حظه في شرك شاب إيراني، سرق معظم ما معه ولم يترك له سوى بضع ماركات، فأبرق الى أسرته لإنقاذه بتحويل بنكي من العراق.

ولد محمد رغلوب في بغداد عام 1930، وعاش بحي المنصور – أرقى أحياء المدينة – حيث تتجمع السفارات والفيلات والقصور، وتكثر البساتين والميادين والحدائق. إذ نشأ في أسرة ثرية متنقلاً منذ صغره بين عواصم أوروبا في رحلات عائلية، بدلت الكثير من أفكاره، لذلك شبّ محبّاً للسفر، مدركاً الفوارق بين تقاليد الشرق وانطلاقة الغرب وتحرره، متمنياً أن يعيش بقية حياته في أوروبا.

وبعدما أنهى دراسته سنة بعد أخرى، تخرج طياراً مدنياً في أمريكا، وبضغوط شديدة من أسرته، ترك شركة بان أمريكان وعاد الى بغداد، ليلتحق بالخطوط الجوية العراقية، يجوب مطارات العالم شرقاً وغرباً، مستغلاً رحلاته في البحث عن الملذات بين أحضان الحسان، متذوقاً مغامراً، يقذف بنفسه أمام كل فاتنة تصادفه، يساعده شبابه الغض ووسامته، وثراؤه.

وذات رحلة تجارية للشركة الى بانكوك، تجول بين أسواق المدينة ومواخيرها، فلم ترق له فتيات آسيا النحيلات القصيرات، وعرج الى البار بالفندق فشرب حتى الثمالة، وصعد الى حجرته مترنحاً وقد عز عليه أن يبيت ليلته بلا مغامرة، فهرب منه النوم، وأرقته الرغبة، ولم يجد حلاً سوى أن يطرق باب حجرة زميلته المضيفة الرومانية، ليليانا، التي تبينت سكره الشديد، ونيته، فحاولت صرفه بلطف، لكنه وهو الفاقد العقل اندفع كالثور الهائج، واغتصبها عنوة. بعدها طرد من الشركة مفصولاً، تسيِّجه الخيبة والفضيحة، ولو لم تنظر زوجته بعين الاعتبار لأولادهما الثلاثة، لطلقت منه غير نادمة. لكنها آثرت البقاء بالبيت لرعايتهم، حيث لن ينفعهم أب مستهتر ماجن، تسبقه فضائحه الى حيث يمشي.

وبمحاولات مستميتة للأسرة والأصدقاء، حصل محمد رغلوب على وظيفة جديدة بقوات الطيران، وارتدى البزة العسكرية، يتبختر بها في منتديات بغداد، ويتصيد فرائسه من الفتيات المولعات بالضباط والطيارين، ثم أُرسل في دورات تدريبية الى موسكو وبلجراد، لتكون المحصلة في النهاية اعتماده طياراً حربياً، أختير بعد ذلك ضمن الطيارين الذين سيطيرون بالميج 21.

وفي دورة تخصصية بموسكو عام 1962، مارس هناك كالعادة هوايته، وتعرف على ساناشا الأوركرانية الحسناء، التي تعمل كسكرتيرة في سفارة دولة الدومينيكان، فغرر بها، ولما حملت منه وتحرك الجنين ببطنها، وعدها بالزواج إن هي تخلصت من الجنين، متحججاً بأن أهله في العراق سيرفضون، ولن يتمكن من إقناعهم إلا بعدما يرجع الى وطنه، حيث يستطيع استدعائها من هناك. لكن الفتاة النحيلة الرقيقة لم تحتمل آلام الإجهاض، وماتت على سريرها بالمستشفى.

عرف رؤساؤه بالأمر فأعادوه الى العراق، وضمّنوا تقريرهم توصية بمنعه من السفر خارج بغداد في دورات تدريبية، لأنه "برغم كفاءته كطيار للميج 21 فهو لا يقيم للشرف وزناً، ودائم البحث عن نزواته".

هذه التوصية حرمته من السفر الى لندن، وأيضاً حالت دون سفره الى تكساس لدورة قيادة سرب، مع زميله شاكر يوسف، وكان معنى ذلك حرمانه لفترة طويلة من الترقي، وهو الطيار الوحيد الأكبر سناً في مجموعة طياري الميج 21.

لذلك انتابته حالة إحباط تدهور نفسياً بسببها، وتقدم بطلبات للجهات الأمنية، للسماح له بالسفر الى ألمانيا الغربية "لظروف مرضية"، ومع الإلحاح المستمر لعدة أشهر، ودور الوساطات، حصل أخيراً على إذن بالسفر مدته خمسة اسابيع. فغادر الى فرانكفورت يحلم برحلة رائعة، تمسح عنه معاناته النفسية المرهقة، بعيداً عن مطار كركوك الحربي، والمشاكل الأسرية التي ضاق بها.

في ذلك الوقت كانت العلاقات العراقية الإيرانية تبدو طبيعية، لكن الواقع كان بخلاف ذلك، فأكراد كردستان المناوئين يسببون صداعاً مزمناً لشاه إيران، محمد رضا بهلوي، ويمدهم العراقيون سراً بالسلاح، انتقاماً من الإمبراطور الذي فرض هيمنته على شط العرب، وغل أيدآ العراقيين في منطقة يعتبرونها قطعة من أراضيهم.

وبالرغم من علاقات التعاون الوثيقة بين الموساد والسافاك ، إلا أن رغبة الإيرانيين في استقطاب طيار عراقي، بطائرته الميج 21، كانت أمنية غالية لمجاملة أمريكا، التي تحمي عرش الشاه، لإطلاعها على أسرارها، ثم يعيدونها ثانية الى العراق، بعد إثارة أزمة دبلوماسية تستغرق فترة معقولة، يكون الأمريكيون خلالها قد فحصوا الطائرة وتكشّفوا أجهزتها.

ويبدو أن رجال السافاك في أوروبا، تعمدوا سرقة نقود الطيار العراقي للإيقاع به، وهو أسير حالته المادية المتردية، لكن رجال الموساد كانوا هم الأسرع في الانقضاض على رغلوب، قبلما تتخذ السافاك خطوتها التالية.

(1) السافاك – SAVAC – جهاز الاستخبارات الإيراني، قريب الشبه من SAVAGE أي التوحش والبربرية، أنشئ عام 1953 لمساندة حكم الشاه وتعضيده، بعد ثورة مارس التي قادها الدكتور محمد مصدق رئيس مجلس الوزراء، واعتصامه بمبنى البرلمان "بالبيجاما" هرباً من اغتياله. وحكم الشاه إيران بالحديد والنار، حيث اتبع السافاك كل أساليب الوحشية مع الشعب الثائر من أجل تثبيت حكم الشاه بالقوة. .وطارد السافاك المعارضين بالخارج والداخل، وتحت هذه المزاعم أباد عشرات الآلاف من الإيرانيين لقوا حتفهم في سراديب السجون تحت وطأة التعذيب. . وكان رئيس السافاك الثالث والأخير، نعمت الله نصيري، يلقب بالمكروه الأول، ووصف بالسادي المتوحش، وكانت ميزانية الجهاز تتعدى المليار دولار، وبلغ عدد موظفيه أكثر من مليونين موظف وعميل، أما عدد المعتقلون خلال عام 1975 فبلغ مائة ألف داخل السجون. وبعد ثورة الخوميني ظهرت حقائق بشعة عن السافاك، واعتقل رئيسه (نصيري) وحكم عليه بعد محاكمة سريعة، بالإعدام رمياً بالرصاص، ونفذ فيه الحكم فوق سطح المبنى الذي كان يشغله الإمام الخوميني في مدينة "قم".
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:26 AM   #60
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


مصيدة العسل

استعانت الموساد بواحدة من أجمل نسائها، وهيأتها لاقتناص الصياد الماهر الباحث عن الجمال. ففي غمرة انزعاجه لضياع نقوده لم يشأ أن يغادر الفندق، وبقي معكر المزاج ينتظر الإمداد القادم من بغداد.

وفي بار الفندق عاوده الحنين الى المغامرة، فالفتاة الجالسة قبالته بمفردها ذات وجه ساحر، قلما صادف جماله في أوروبا، فالعينان ناعستان تسكران، وبفمها انفراجة مجنونة تلهب الأعصاب، وبجسدها الممشوق أنوثة فتاكة، متوثبة، تعلن عن نفسها في صراحة. ودهش رغلوب عندما رآها توقع فاتورة الحساب، وهتف "ياللحظ السعيد. . إنها إذن نزيلة الفندق".

استحضر مواهبه سريعاً وبعد دقائق قليلة كانت تراقصه، فأذهب عطرها بعقله، وتحفزت كل مجامعه في لهفة للارتواء، وفقد الطيار الذائب اتزانه، وأعصابه. وغادرا البار ثملين الى الطابق التاسع، حيث تقيم الفتاة أيضاً، وأمام حجرتها انخلع ما بقي فيه من عقل، ولم يعد بقادر على الصبر، فدخل معها الحجرة. وبينما يتقلب في حمم اللذة، فينصهر صهراً، وينجرف، يعترف لها بأنه تائه، ثمل، يكره الإفاقة على فراشها، ويكشف لها عن شخصيته الحقيقية، وما حدث له من سرقة نقوده.

ولأنها عميلة منتقاة بعناية لهذه المهمة، ومدربة على كيفية تفكيك إرادته، أذاقته أعاجيب الجنس، وطمأنته عندما قالت له إن بمقدورها مساعدته للتغلب على مشكلة المال، وفي اليوم التالي عرفته على رجل الأعمال "هرفراتز" الذي يقوم بمضاربات في البورصة، وبالحقيقة هو من أمهر رجال فريق الموساد، الذي طار خصيصاً الى فرانكفورت لاصطياده.

اصطحبه فراتز الى سوق البورصة ليضارب مستبشراً بوجهه، على وعد بمنحه عشرة آلاف "فرنك" في حالة تحقيق كسب له. وفي عملية تمثيلية لم ينتبه لها رغلوب، منحه ضابط الموساد المبلغ "بسهولة"، واتفقا على معاودة الكرة ثانية فيما بعد.

على هذا . . استهسل رغلوب الثروة التي هلت عليه، واشترى للحية الناعسة هدايا ثمينة، وأخذ ينفق عليها بسخاء، وعندما جاءته الحوالة النقدية على البنك الاتحادي، أنفق غالبية المبلغ أيضاً عليها وعلى مقامراته، وأحاطته الموساد بحفنة من الحسناوات تكفلن به، وعاش بينهن أياماً كأنها الحلم، واستطاع فراتز انتزاعه من الفندق، وأخذه الى إحدى الشقق الآمنة، حتى يكون تحت السيطرة الكاملة، وبعيداً عن رجال السافاك، وعن رقابة المخابرات العراقية.

بيد أن محمد رغلوب داوم على سلوكه المعتاد، في الإنفاق ببذخ، حتى خلت جيوبه من آخر مارك، وجلس ينتظر في بلاهة لعبة المضاربة التي يجيدها فراتز، لينقده مبلغاً آخر.

لكن فراتز يخيب آماله ويدعي تعرضه للخسارة، بل ويطلب من رغلوب أن يفكر معه بصوت عال، في كيفية اجتياز هذه العقبة. وتركه يلهث بين أحضان إحدى عاهراته، في "مصيدة العسل" الملغمة بالكاميرات وميكروفونات التسجيل، بينما كان بقية أعضاء الفريق منهمكون في التصوير، وقد أخذتهم الدهشة أمام فلتان اللسان الذي أصاب الطيار التائه، وهو يسب قيادته وسلاح الطيران العراقي كله.

وعلى حين بغتة، ظهر فراتز فجأة وبرفقته ثلاثة آخرين، وحاول الطيار العاري سحب ملابسه، وبخطوات محسوبة بدقة ناوله مظروفاً ثقيلاً، يحوي عشرات الصور العارية لرغلوب، وضغط على مفتاح التشغيل فانطلق صوت الكاسيت بالسباب الذي تفوه به، فألجمت الصاعقة لسانه، وارتعدت عضلات وجهه، واهتزت لا إرادياً أطرافه، عندئذ لم يمهله ضابط الموساد لحظظة واحدة ليسترد وعيه، إذ سأله بلهجة فيها الخباثة والوعيد:

صديقي العزيز . . ماذا ستفعل لو أنك تملك الآن مليون دولار . .

أجابه رغلوب وهو يرتجف متظاهراً بالهدوء:
أنا لا أملك الآن مائة مارك . . وتجيئني بمليون دولار.. ؟ لو أن ذلك حدث بالفعل فسأموت من المفاجأة . . سأموت في الحال دون أن أستفيد بنصف دولار فقط.
لدينا عشرات الأفلام وشرائط التسجيل، واحد منها فقط يقودك الى الإعدام. .ونحن لا نرغب في إيذائك طالما سنتفق.
أنتم من . . ؟ وعلام سنتفق. . ؟
نحن أولاد عمومتك. . كلفتنا الموساد برعايتك وإكرامك، و ..
موساد. . ؟
وبين يديك الآن مليون دولار. .ستعيش به هانئاً طوال حياتك أنت وأسرتك، مقابل أن تتعاون معنا. . وهناك ما هو ألذ وأمتع. .فتياتنا. .أجمل نساء الأرض. . كلهن طوع أمرك.
أنا لا أفهم شيئاً هرفراتز.
نريدك أن تهرب بطائرتك الميج 21 الى إسرائيل، وسوف نرتب لك حياة خيالية لا تحلم بها، سنمنحك فيلا رائعة، ورتبة عسكرية في جيش الدفاع، ومعاشاً سخياً مدى الحياة لك ولأسرتك، وستكون ابن إسرائيل المدلل الذي تجاب رغباته بلا نقاش. .

وأما هذا المأزق الصعب لم يشأ أن يرد، وبعد فترة صمت طويلة أدرك خلالها الحقيقة، لم يوافق على العرض ولم يرفض، إنما طلب من فراتز مهلة للتفكير ودراسة الأمر من شتى جوانبه.

كانت الفتاة الأفعوانية العارية، قد غادرت الغرفة حال دخول فراتز ورفاقه، فعادت الى الطيار المذعور ثانية لتهدئته، وفي الوقت نفسه تشوش عليه أفكاره، وتدفعه لأن يوافق بتخويفه من المخابرات العراقية، التي لن ترحمه إذا ما وصلتها نسخة من الأفلام والشرائط.

وبعد ساعتين تقريباً، جلس اليه فراتز يشرح له سهولة المهمة، موضحاً كيفية الهرب بالطائرة عبر الأجواء الأردنية، التي لا تملك الميج 21، وسأله عن رده، فأعلن رغلوب موافقته، واشترط أن يوضع المليون دولار باسمه في بنك سويسري أولاً.

لم يصدق ضابط الموساد أذنيه، وكادت الدهشة أن تصعقه، فالصيد الثمين ها هو يتمايل أمامه مرهقاً مترنحاً، وحتماً ستخور مقاومته وإرادته، وكان عليه محاصرته أكثر وأكثر، وسد ثغرات الهرب دونه. فالحلم الصهيوني أوشك أن يتحقق، ليفرح شعب إسرائيل، ولتفخر الموساد برجالها المخلصين، وبفتياتها الرائعات.

امتدت المفاوضات بينهما وقتاً طويلاً، فراتز يعده بالمبلغ كاملاً بعد وصوله الى إسرائيل بطائرته، ورغلوب أكثر إصراراً على تنفيذ شرطه أولاً.

فراتز يقول له إنه يفاوضه باسم دولة، وما يتوصلان اليه هو ميثاق للتعامل، فيجيب الطيار العراقي بأنه لا يثق في مواثيق اليهود، وهو يريد النقود أولاً. .

فيسأله فراتز عن الضمانات في حالة تسلمه المبلغ باسمه، فيرد رغلوب متسائلاً عن ضماناته هو الآخر.

يعود فراتز ويعرض عليه اصطحابه الى إسرائيل، فيودع المبلغ باسمه هناك، ثم يعيده ثانية الى فرانكفورت، فيقول رغلوب بأنها خدعة جديدة، فكما صوره في فرانكفورت ألن يصوره داخل إسرائيل، ليضطر بعدها الى الهرب بطائرته بدون مقابل. .

استحكم الأمر بينهما الى أبعد المدى، وأغلقت منافذ التفاوض للوصول الى حل يرضي الطرفين، وأخيراً اقترح فراتز أن يرافقه الى باريس للتفاوض مع رئيسه هناك، فربما يوافق على شروطه.
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:27 AM   #61
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


نهاية مقامر بحياته

وفي الطائرة الى باريس، أغمض عينيه وطار مع أحلامه الوردية، وهو يسلم المليون دولار للمخابرات العراقية، ويتسلم قلادة البطولة وشهادات التقدير، ويحصل على ترقية فورية كمكافأة، فيرتفع اسمه الى الآفاق، وتنزاح التقارير السيئة في ملفاته الى غير رجعة.

استغرقه التفكير أيضاً في زوجته التي ستسر كثيراً، وستتقرب اليه بالود القديم الذي راح، حتى أولاده، سيحسدهم زملاؤهم في المدرسة، والشارع، والنادي، ويتحول محمد رغلوب الى بطل من أبطال العرب الذين يفخر بهم التاريخ.

أخذ عهداً على نفسه ألا يتراجع عن مطلبه، فهم يريدون الطائرة وبأي ثمن، والمليون دولار مبلغاً يعد تافهاً قياساً بالطائرة الجبارة، التي ترهق عقولهم وتخيف مغاويرهم. إنه طيار حربي يعرف سر التهافت على الميج 21 عند الإسرائيليين، هذا ما سمعه أيضاً من أحد القادة الكبار في العراق، يومها أكد القائد بأن إيران تتودد الى العراق، منذ وصلت الطائرة السوفييتية الخرافة التي لا يملكون مثلها.

وفي باريس نزل بفندق ضخم بميدان البيراميد، وفي جناحه الذي هيأوه له بأموال الموساد بقي ينتظر فراتز ورئيسه.

كان مائير عاميت لا يصدق ما يقوله كاروز، من وجود طيار عراقي تحت سيطرتهم، يتم التفاوض معه في باريس، وانتابته من جديد مشاعر الفرح التي ولت، بفشل العملية 007 في المحاولتين السابقتين، وأوصى كاروز بضرورة انتهاز الفرصة هذه المرة، واستغلالها على أحسن ما يكون، وفكر بالاتصال بعيزرا وايزمن قائد سلاح الجو السابق، الذي حل محله مردخاي هود، ليهنتئه بقرب تحقيق رغبته، لكنه غادر مكتبه على عجل لمقابلة رئيس الوزراء، ليفي أشكول، وقال له:

سيدي الرئيس . . أستطيع أن أؤكد نجاح العملية 007، وأن الميج 21 ستصلنا عما قريب. فرجالنا يتفاوضون في باريس الآن مع طيار عراقي فضلاً عن. .

فصرخ رئيس الوزراء غاضباً:

منذ متى وأنا أتصور المستقبل كواقع.. ؟ كان هاريل يقول لـ بن جوريون "فعلت". . وأنت تقول لي "سأفعل". .؟

وخرج عاميت معروقاً خجلاً، يفكر في أن يطير بنفسه الى باريس، ليتفاوض بنفسه مع الطيار العربي الذي سيخلد اسمه، ويضعه على قائمة رؤساء الموساد العظماء.

وما إن وصل الى مكتبه حتى وجد خبراً عاجلاً نقله اليه كاروز:

"ريتشارد هولمز (1) تولى منصبه اليوم".

وفي باريس كان محمد رغلوب يحاول بعناد أن يغامر الى النهاية، فقد زاره فراتز ومعه ضابط آخر، بذلا جهداً شاقاً لإثناءه عن شرط الدفع مقدماً، لكنه لم يتزحزح قيد أنملة، بل إنه ثار عليهما:

تريدون مني أن أهرب بطائرة قيمتها 25 مليون دولار دون ضمانات. . إنكم في إسرائيل تريدونها وبأي ثمن لأنكم تجهلون أسرارها. .ضعوا المليون دولار باسمي وسأهديها لكم، وعندكم لي شرائط وأفلام تستدعي إعدامي رمياً بالرصاص، تستطيعوا إيذائي بها في أية لحظة. . ولا تضيعوا وقتكم معي لأن المليون دولار مبلغ زهيد، فمخابراتنا تدفع الكثير لكل من يخبرها عما تخططه الموساد وتسعى اليه.

وضحت إذن الرؤيا لرجال الموساد، فالضابط العراقي يحاول ابتزازهم إذا لم يرضخوا لشرطه، وهذا مستحيل بالطبع، وكان خطأ رغلوب جسيماً عندما لوح بتهديدهم بإطلاع مخابرات بلده على نواياهم. وعندما هدده ضابط الموساد بشرائط الكاسيت المليئة بالسباب، وأفلام الجنس العارية، ضحك رغلوب ساخراً وقال إن الرجل وامرأته على الفراش يسبان أهليهما في فجاجة.

عندئذ أيقن الإسرائيليان أنهما وقعا في فخ الطيار المفلس العنيد، فبدلاً من أن يسيطرا عليه انعكس الأمر، وبات واضحاً أن فشل التفاوض معه وعودته الى العراق، فيه كل الخطر على إنجاح تجنيد طيار عراقي آخر، لذلك حمل رغلوب حقيبته الى محطة القطارات قاصداً ألمانيا، وعنده يقين أنهم سيوافقون، وسيسعون وراءه في إلحاح، عندها، سيزيد المبلغ الى الضعف، وربما أكثر.

لم تكن حساباته بالقطع صائبة، فقد كان الأمر أكبر كثيراً من حدود تفكيره، وطموحاته، لكنه استعذب لعبة المساومة، يملؤه اعتقاد راسخ بأن مغامرته سوف تنجح لأنهم بحاجة اليه، وما كان يعلم بأن إسرائيل كلها، حكومة ومخابرات، تنتظر وتترقب. فالأمر جد خطير، خطير، الى أقصى درجة لا تتصورها مداركه المحدودة.

إذ انصب تفكيره في متعة المغامرة، ونتائجها المبهرة فيما بعد، وساقته سذاجته باللعب مع الكبار الى نهاية مأساوية لم يكن يتوقعها، ولم تنته بها أبداً حياة أي طيار عربي آخر، من قبل، أو بعد.

فأثناء سير القطار بسرعته القصوى في الأراضي الألمانية، لم يلحظ رغلوب أن هناك من يلاحقه، ويتبعه كظله، فما إن غادر دورة المياه، خارج عربة النوم، اصطدم به ثلاثةى رجال أشداء، خلطوه خلطاً بين باب الحمام والباب الخارجي، وقبلما يتمكن من الدفاع عن نفسه قذفوا به من القطار الدولي السريع.

وفي صباح 11 فبراير 1966 عثرت الشرطة الألمانية على جثته، متناثرة الأوصال على امتداد كيلو مترين. وجاء التقرير النهائي للحادث: "أن الطيار العراقي كان ثملاً عن وقوع الحادث، وأخطأ عند خروجه من دورة المياه، فبدلاً من الاتجاه الى باب العربة الداخلي، فتح بطريق الخطأ باب العربة الخارجي، الذي وجد به خلل، وسقط من القطار".

هكذا قامر محمد رغلوب بحياته، ودفع عمره ثمناً لمغامرة قصد بها خدمة وطنه، وتحسين وضعه الوظيفي والاجتماعي، وطويت بذلك صفحة حزينة، من ملف الصراع الإسرائيلي الشرس، لامتلاك طائرة ميج 21 عربية.

ترى . .هل توقفت الموساد في سعيها. .؟

وهل انتهت، بنهاية رغلوب، العملية 007 . . ؟

فعلها عاميت هذه المرة بذكاء . .

عندما اختار فتاة الموساد الرقيقة الناعمة ..

ذات الوجه الطفولي البريء. .

الذي جمع الوداعة والأنوثة معاً. .

فامتزجا بالدلال والإثارة والذكاء الخارق. .

ولعبت الحية الإسرائيلية بعقل الشاب المتيم. .

وأذابته تماماً. .

تماماً. .

بلا أدنى مقاومة. . !!
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:28 AM   #62
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


فينوس التي جاءت

. . "أيها الزملاء. . برغم الجهود التي بذلت، علينا جميعاً أن نواجه الحقيقة، ونعترف بأننا فشلنا. .ليس نتيجة خطأ تكتيكي في خططنا. .وإنما لكون هؤلاء الطيارون العرب. .أشد إخلاصاً ووطنية".

بهذه العبارة استهل مائير عاميت كلمته في اجتماعه بضباطه، وقد علت الوجوه علامات اقتضاب ووجوم، وأكمل عاميت:

"إن أمن إسرائيل لن يكتمل. .طالما امتلك العرب هذه الطائرة التي يتفوقون بها علينا. .ويتهددون أجوائنا. . وسنبقى هكذا، مهددون بالموت والتشتت. . لو لم نحصل على واحدة منها. .وعندما يتحقق لنا ذلك. . أستطيع أن أؤكد أن إسرائيل قد ولدت من جديد لتبقى. . وأن أذرعها الطويلة ستخنق رقاب العرب. . وتدفن أمنهم الى الأبد في الرمال.

أيها السادة. .على عاتقنا تقع المهام الكبرى التي تخدم وجود الدولة. .ومصالحها. .وأهدافها. .وبدون تخطيط ذكي سليم ستكون العواقب وخيمة. .وسنتلقى الفواجع واحدة تلو الأخرى. .ونحن نبكي كالنساء. .ونولول في حسرة.

وها هي . . عملية تجنيد طيار عربي تفشل للمرة الثالثة. .بعدما كنا قاب قوسين أو أدنى من النجاح. لكننا اعتدنا ألا نيأس. . أو يتسرب إحساس اليأس الى قلوبنا. .فليس مع اليأس نجاح. .أو عمل مثمر.

وأمامنا اليوم تقرير هام من بغداد. .عن طيار عراقي جديد. .يجب إخضاعه للتحليل الدقيق. .لنتمكن من خلاله من وضع خططنا. . والعمل بإصرار على إنجاح عملية تجنيده. . مقابل أي رقم يطلبه من المال".

كان عاميت يتكلم وقد غلف صوته رنين الثقة. .فالأنباء السارة التي جاءته من بغدد، زرعت بداخله مجدداً الأمل في النجاح. وزاد من تفاؤله أن رقم (4) يمثل في حياته رموزاً هامة، فقد ولد في شهر "4) وكان ترتيبه "الرابع" بين أخوته، وقاد عام 1948 المجموعة "الرابعة" في منظمة الهاجاناة الإرهابية، وكان "الرابع" على دفعته أثناء دراسته للاقتصاد في نيويورك عام "1954"، وكانت زوجته هي الأخرى من مواليد شهر "4"، وهي الفتاة رقم "4" التي أحبها، ويبدأ رقمه العسكري برقم "4"، ونجا من الموت "أربعة" مرات خلال خدمته العسكرية.

ولما سأله أحد معاونيه عن الاسم الكودي للعملية، وضرورة تغييره من "007" الى اسم جديد، رفض عاميت مردداً أن ملفات الموساد في عهده لن تتضمن اسماً لعملية فاشلة، وأنه على ثقة من أن "007" فأل حسن، ولن يغيره.

المعلومات السرية الأخيرة التي بثها عملاء الموساد في بغداد، أوضحت بأن الطيار العراقي منير روفا – الذي سبق رصده في تكساس – على علاقة بفتاة أرثوذكسية عراقية، وأنه دائم الالتقاء بها بمنزل صديقه يوسف منشو، وهو تاجر يهودي مفلس، يطالبه الدائنون بمبالغ كبيرة. وقد ارتبط هو الآخر بعلاقة قوية بالشقيقة الكبرى لصديقة روفا.

ووضعت – على أساس المعلومات المعطاة – خطة أولية لاصطياد منير روفا، بواسطة صديقه المفلس، عن طريق إغراؤه بالمال. وفي محاولة "جس النبض" أظهر يوسف منشو يهوديته التقليدية، عندما وافق على التعاون مع الموساد مقابل تسديد ديونه، ومساعدته في الهجرة الى إسرائيل.

لم يكن هناك أدنى مشكلة إذن، فالتاجر اليهودي الذي حصل على المال، كتب تقريراً وافياً عن صديقه روفا، كشف عن جوانب شخصيته، ونشأته، وظروفه، وهذه كلها معلومات قيمة، ساعدت على تحليل الطيار الشاب نفسياً، ودراسة أفضل الطرق للتسلل اليه، لاجتذابه أولاً، ثم الانقضاض عليه.

وطُلب من يوسف منشو الظهور بمظهر التاجر الثري، الذي تمكن من عقد صفقة تجارية مربحة، وأن يتولى الإنفاق بسخاء على صديقه، وإقراضه للإنفاق على صديقته ومغامراته النسائية المتعددة.

كان للمال فعل السحر عند التاجر اليهودي، لذلك فقد انصاع لأوامر الموساد بصدق وإخلاص، وعمل جاهداً على إثبات ولائه، عندما ساعد على الدفع بفتاة يهودية حسناء، في طريق الشاب الباحث عن المتعة، فسعى للفوز بها بلا فائدة. ومن أجل التغلغل الى عقلها أغدق عليها بالهدايا، وكانت هداياه الثمينة قد أرهقته مادياً، لكن يوسف – بأموال الموساد – كان لا يبخل عليه بشيء، ويمده بين حين وآخر باحتياجاته منها، فضمن بذلك ولاء الطيار المغيب الوعي، والاستحواذ عليه. وسرعان ما تحول التاجر المفلس الى صياد ماهر، أجاد اقتناص الفرصة للإيقاع بفريسته، طمعاً في المزيد من المال.

إن صناعة الخونة والجواسيس عملية معقدة جداً، تتداخل فيها عوامل كثيرة وأحداث عجيبة، يقوم عليها خبراء مدربون، عندهم الصبر والحنكة وأعلى درجات المهارة والذكاء، بحيث يجدُّون في إثر ضعاف النفوس، أولئك الذين يسعون وراء أوهام المجد والثراء، أو ممن اعتقدوا بضآلتهم في أوطانهم. وعندما يقع هؤلاء في براثن صائدو الخونة، فهم يُحَاصَرون من كل صوب، وتغلق دونهم أبواب النجاة.

ففي الوقت الذي كان فيه الطيار الشاب، غارقاً في مطاردة الفتاة اليهودية الحسناء – الطُّعم – وفي ديونه ليوسف، كان الأخير قد استعاد نشاطه التجاري بتوسع، وقام بمعاونة الموساد، بتصدير صفقة تمور الى إيران، في باطنها عملية تمويهية لإظهار الثراء، والالتقاء بأحد خبراء الموساد هناك. حيث أطلعه يوسف على تطورات أحوال روفا، ونقاط ضعفه، ولتدارس خطة محبكة وضعت خطوطها العريضة في إسرائيل، تقضي بأن يسافر روفا الى باريس، وهناك سيتولى آخرون أمره.

رجع يوسف منشو الى بغداد، وأخبر روفا – حسب الخطة – بأنه بصدد عقد صفقة تمور ضخمة مع شركة إنجليزية، سيصل مندوبها قريباً الى بغداد للتفاوض معه وتوقيع العقد، طالباً منه أن يقوم بعملية الترجمة بينهما عند وصوله.

كانت الموساد تبذل كل ما في وسعها لإنجاح العملية هذه المرة، واستعدت لها بكامل إمكانياتها البشرية والمادية، وفي سبيل تحقيق ذلك أعدت دراسة مستفيضة شملت كل جوانب حياة منير روفا، اعتقاداته، وأحلامه، ومبادئه، ونقاط ضعفه، وأحواله المادية والأسرية والمهنية، وخلصت الى نتيجة مفادها أن خير سبل الإيقاع به، يكمن في فتاة أسطورية الجمال والأنوثة، يقف عاجزاً أمام مقاومتها. فلأنه عاشق مغرم بالنساء، ومتعدد العلاقات، لن تصلح للمهمة سوى فتاة طاغية الفتنة والإثارة، لم يصادف مثلها من قبل.

وجرى البحث بين فتيات الموساد عن تلك الفتاة، الأمل، التي اشترط عاميت أن تكون ملمة باللغة العربية، على ألا تستعملها، وأن تكون ذات خبرة سابقة في عمليات مصائد العسل، وتم بالفعل اختيار احداهن، حيث جرىتلقينها خطوات العملية التي ستتم في بغداد، لاستدراج الطيار العراقي الى باريس، بتقمص دور مندوب شركة إنجليزية، تعمل في مجال التجارة الدولية، ثم ربطه بعلاقة خاصة لا يستطيع الفكاك منها.

وفي الثالث والعشرين من مارس عام 1966، وصلت "ليزا برات" الى مطار بغداد الدولي، تحمل جواز سفر بريطاني، وتفويضاً من الشركة الوهمية، بالتوقيع على عقد تصدير شحنة من التمر العراقي الى لندن.

أنهى ضباط الجوازات والجمارك إجراءات الفاتنة الإنجليزية، وهم في دهشة أمام جمالها الطاغي، وكان بانتظارها يوسف منشو، الذي كان ممسكاً بيافطة تحمل اسمها، ومن بعيد وقف منير روفا، يتأمل فينوس الساحرة التي جاءت، وقد جفت عروقه عطشاً لرواء أنوثة أشلت عقله، وسلبت إرادته منذ النظرة الأولى . . !!
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:30 AM   #63
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


الطيار التائه

في عام 1934 ولد منير حبيب روفا ببغداد، لأسرة مسيحية أرثوذوكسية فقيرة، أقامت بحي المستنصرية الشعبي الفقير، وكان ترتيبه الثاني ضمن تسعة أبناء لموظف بسيط، يعمل بأرشيف وزارة الزراعة، عانى كثيراً بسبب كثرة الأولاد وقلة الدخل، ودفعته مشاكل المعيشة الى إدمان الخمر العراقي "العَرَقْ" ومطاردة النساء، لذلك استغل عمله في الحصول على الرشوة من جمهور المترددين، وكانت نهايته الفصل من الوظيفة، والحبس لعدة أشهر.

وبعدما انتهت مدة حبسه واجهته المحن كالطوفان، فتعاظمت معاناته الى حد اليأس، وذاقت أسرته الكبيرة صنوف الجوع والفقر والحاجة، ولجأ الى الهرب من دائنيه الى أقصى الخليج العربي، حيث إمارة دبي، التي كانت واقعة آنذاك – عام 1953 – تحت السيادة البريطانية، حيث عمل بالتدريس لأبناء البدو، وكانت الى القرب منه هناك موظفة هندوسية، سرعان ما غرق في حبها، فأنسته زوجته وأبناءه التسعة، ولم يتصور للحظة مدى معاناتهم وحاجتهم اليه، والى الجنيهات الاسترلينية الغير منتظمة التي كان يحولها لهم.

إلا أن الزوجة، لم تقف مكتوفة الأيدي أمام سلبية الأب الغافل، فخرجت الى سوق العمل، وكافحت في استماتة، وذاقت من الذل ما لا يتحمله بشر، كي تنجو بأبنائها من براثن التشرد، وتنأى بهم عن مصير مظلم يتربص بهم، ودفعت بابنها الثاني – منير – للالتحاق بكلية الطيران.

وبرغم حجم الكراهية التي كان منير يكنها لوالده، كانت أمه تحاول دائماً تنقية صورة الأب الملوثة المهترئة، معللة أسباب اغترابه الطويل بعيداً عنهم، مكذبة ما يأتي به العائدون من عنده من أخبار علاقته بالهندوسية وإنفاق مدخراته عليها في بذخ، ومداومته على شرب الخمور.

يقول منير روفا في مذكراته الشخصية:

"كان أبي كالمحيط في تقلباته وثوراته المدمرة، فرسائله تجيئنا صاخبة، يسمم أبداننا في الاستهلال، ويلعننا في كل سطر، ويختم متوعداً بحرماننا من المال الذي لا يكفي معيشتنا لخمسة أيام، فكُنّا نبيت جرحى مع وصول رسائله، نلعق الدموع ونجرع الأسى.

كم كنت أشعر بآلام عقلي وكبدي، وأنا أرى أمي تتألم، وتعمل في مثابرة لإطعامنا، وأحلم باليوم الذي أستطيع فيه تخفيف معاناتها، لكن مشاكلنا وحاجاتنا كانت تزداد يوماً بعد يوم، وذلك القابع بين أحضان الهندوسية، لا يرسل لنا إلا اثنتي عشر جنيهاً كل شهرين. لذلك فقد حاصرتني أحلام اليقظة، أحلام مليئة بالثراء والشبع، اتخذتها مهرباً لي من سموم أبي ومنغصاته".

وفي كفاح مرير من أجل أن يحيا آمناً، تفوق منير تفوقاً ملموساً في الكلية الجوية، وتخرج منها طياراً ليخدم في سلاح الجو العراقي. ومن الراتب الضخم الذي تمنحه الدولة لطياريها، استطاع أن يساعد أخوته، ويدخر بعضه ليتزوج من حبيبته "مريم" ابنة الأسرة الثرية، التي تعلق قلبه بها.

كانت مريم فتاة خمرية مليحة، درست الأدب الإنجليزي بجامعة بغداد، وأثناء دراستها تعرفت بشقيقة منير – رفيدة – زميلة الدراسة، ومن خلالها ارتبطت عاطفياً بمنير روفا، وعلى استحياء، اتفاق على الزواج. وبعد عودته من الدورة التدريبية الأولى في موسكو عام 1957 تزوجا في حفل عرس جميل، وأقاما بإحدى شقق حي الديوانية، وأنجبا يوسف وناجي عامي 1959، 1961 على التوالي.

بيد أن منير روفا أوفد في بعثة طويلة الى الاتحاد السوفييتي، للحصول على دورة تدريبية لقيادة الطائرة ميج 21، الانقضاضية الشرسة، واعتقد روفا أنه سينتقل أخيراً من القاعدة الجوية بالقرب من كركوك، لكنه أبقى مكاننة على مسافة ثلاثمائة وخمسة عشر كيلو متراً من بغداد، برغم الطلبات العديدة التي تقدم بها لقيادته، لنقله الى قاعدة الرشيد الجوية القريبة من العاصمة. وظل بمكانه حتى بعد عودته من الدورة الأخيرة في تكساس.

لم تكن رغبة روفا في الانتقال الى بغداد، نابعة من حبه لبيته ولأولاده، بقدر ما كان مطلباً حيوياً له، حيث يستطيع ممارسة هوايته المفضلة في العاصمة المزدحمة، ألا وهي مطاردة الحسناوات الفاتنات، اللائي يبهرهن زيه العسكري كطيار، فيداعب أحلامهن بوسامته وشبابه، وينتقي من بينهن من تروق له، متخذاً من شقة صديقه اليهودي يوسف منشو، مسرحاً ومرتعاً لنزواته، ووكراً أكثر أمناً للقاءاته النسائيه.

وعندما حلل خبراء الموساد شخصية الطيار الشاب، اكتشفوا أن هوايته في مصاحبة النساء، كانت نوعاً من الهرب من معاناته النفسية، اتخذت منذ بدايتها – وكان وقتها طالباً بكلية الطيران – طابع التعدد والتباين، ويبدو أن مسلكه هذا يعود في الأساس الى نشأته بحي المستنصرية، حيث تكثر به الكوليات الى جانب حي الديوانية أيضاً، الذي أقام به عش الزوجية.

ومن خلال تحليل شخصيته وتشريحها بدقة، فالمسمى العلمي لهوايته هو إصابته بانحراف جنسي، يطلق عليه في علم الطب العقلي والنفسي PSYCHIATRY هوس الجنس.

لذلك . . ما إن تقابل مع ليزا برات في المطار، حتى أوشك على الانهيار أمام جبروت جمالها، الذي لم يصادفه من قبل في موسكو أو تكساس. ووقف حائراً يتأمل تلك المخلوقة الرائعة المثيرة، ممنياً نفسه باغتراف فورانها البركاني المدهش.

(1) العرق: نوع من الخمور المحلية يصنع من التمر المخمّر، وهو مشهور بالعراق.

(1) الكولية: بيت تمارس فيه الدعارة بأجر.

(2) هوس الجنس عند الذكور SATYRIASTIC – أو شره الجماع SATYRIASIS فهو ما نعرفه في دون جوان وكازانوفا وغيرهما، وسيكولوجيا هو نوع من الهرب من مشاكل أو متاعب حياتية، فتغيير شريك الحب شبيه بمواعيد المراهق الغرامية الكثيرة، والمريض بهذا المرض يجد لذة ممتعة في تنوع علاقاته وتعددها، لإثبات قيمته الإغرائية SEDUCTIVE والبرهنة على ذكورته.
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:31 AM   #64
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


رحلة الجنون

لم يكن يوسف منشو يعرف جملة إنجليزية واحدة، وكان على منير روفا مهمة ملازمته بمكتبه، للاتفاق مع المندوبة الإنجليزية الحسناء وتوقيع العقد. ووجدها روفا فرصة رائعة للتقرب اليها، خاصة وقد كانت تتعامل معه بدلال أنثوي محبب، أضفى الثقة الزائدة بشبابه وبوسامته. . ومواهبه.

لقد كان من الصعب، بل من المخاطرة، أن يصطحب طيار حربي عراقي، فتاة أجنبية في نزهة خلوية ببغداد. لذلك. . فقد حرص روفا على إفهامها حقيقة وظيفته، والسبب في عدم قدرته على الخروج معها. فأبدت تفهمها للأمر، وأهدته ساعة يد ثمينة وهي تشكره على اهتمامه بها، ومساعدتها في إنجاز عملها خلال زمن قياسي. ففي اليوم التالي لوصولها كان قد تم الاتفاق، المبدئي، ووقع على العقد بعد ثلاثة أيام، وعندما أراد يوسف الاحتفال بالمناسبة بأحد الفنادق الكبرى، كانت عميلة الموساد هي الأسبق في الرد. إذ رفضت أن يتم ذلك خارج المكتب، لكي لا يتعرض روفا لأية مشاكل.

وفي المساء . . أقيم بالمكتب حفل عشاء، وتأخر روفا بمنزله قليلاً بسبب مرض صغيره ناجي، ولما طرق باب المكتب، صاحت ليزا برات من الداخل وهي تهرول:

إنه روفا . . لا شيء هنا رائع بدونه.

كان روفا يقف بالباب مبهوتاً، وكأنه يراها لأول مرة، فقد ارتدت ثوباً عارياً ذو لون أزرق، فضح أنوثتها المتوثبة، ولفحه عطرها الناعم المثير الشذي.

جذبته الى الداخل بأصابع حانية رقيقة، وأرسلت لعينيه شعاعات عينيها الناعستين، فسرت ببدنه رجفة يعرف كنهها، ودون أن يشعر سحب يده من يديها، وضمها في لهفة مجنونة مشبعة بالرغبة، وانقض كالظامئ بشفتيه يحسو عبير رضابها، ويمتص وهج حريق شفتيها نهماً، ويداه تجوبان ذراعيها وكتفيها، تحرثان اللحم الدافق بالرغبة، الموشى بالأنوثة الفتاكة المجنونة.

في دهشة مصطنعة، استسلمت ليزا لأحضانه وقبلاته الملتهبة المتسارعة، وعندما أفاق قليلاً، حاول أن يعتذر بكلمات منتقاة، لكنها بدلال آسر اقتربت منه، وأذاقته الجحيم السرمدي في قبلة لهفى، فأججت لسعة جوعه وفجرت براكينه، وندت عنها آهة متحسرة وهي ترتجف ملتاعة وتردد:

مونير .. أنت . . أنا . . لا أعرف ماذا أقول.
لكنني أعرف أيتها الفاتنة الساحرة الدفيئة..
تعرف ماذا. .؟
كل خلاياي وحواسي تحبك..
مونير..
لم تهزني قبلك امرأة بمثل هذه السرعة. . ولم تهزمني مشاعري قبلما أراك أبداً.
أنت عاطفي أكثر من اللازم. .
أنا عابد أكثر من اللازم..
أنا عابد في محرابك. . لأنني من عبدة الجمال والحب. .
أنت تفتت إرادتي. .
وأنتِ أجمل نساء الكون . .أحبك..
أخشى ألا تكون صادقاً فيما تقول. .
لم أكن صادقاً إلا معك..
أتحبني كل هذا الحب. . ؟
أحببتك منذ رأيتك بالمطار. .وتمنيت أن تجيء اللحظة التي أكاشفك فيها بحبي. .
أحبك. . (!!)

"وهي تجهش بالبكاء وتحتضنه بقوة":
لكني سأغادر بغداد ظهر الغد..
سأطير ورائك الى أقصى بلاد الأرض. .
مونير . . أنت . . تكاد تكسر ضلوعي. .
ليز حبيبتي. . إبق معي أربعة أيام حتى تنتهي أجازتي.. سأجن إن رحلت غداً. .
أنا التي سأجن لو لم تجيئني بباريس.. أتشوق لأن نخرج معاً الى الشانزليزيه تطوق يداك خصري.
فقط. .؟
وأن أنام على صدرك وتتخلل أصابعك شعري.
أوه أيتها الفاتنة..
سأظل أحلم وأحلم حتى أراك بباريس. .
سأتقدم بطلب ليسمحوا لي بأجازة. .
وهل هناك صعوبة في ذلك . . ؟
الأمر يستغرق بعض الوقت لا أكثر ..
سأنتظرك. .

كان يوسف منشو قد غادر المكتب قبل مجيء روفا، لتهيئة المناخ المناسب للصياد والفريسة، فأثمر اللقاء المنفرد بينهما خطوة هامة، ولأول مرة يهجر منير روفا بيته في أحد أيام أجازاته، ليبيت بالمكتب مع ليزا برات، بدعوى أنه في مأمورية عمل.

في تلك الليلة العاطفية الساخنة، أظهرت عميلة الموساد براعة تفوق التخيل، في إظهار عواطفها تجاه الطيار العاشق، ونستطيع أن نقول أن منير استشعر يومها، بأنه تحول الى مخلوق آخر، يفكر بعقل عشيقته، ويرى بعينيها، ويمشي حسبما تسحبه أو تقوده.

فعلها عاميت هذه المرة بذكاء، عندما اختار فتاة الموساد الرقيقة الناعمة، ذات الوجه الطفولي البريء، الذي جمع الوداعة والأنوثة معاً، فامتزجا بالدلال والإثارة والذكاء الخارق. كل هذه الصفات نادراً ما تجتمع في امرأة واحدة، لكنها اجتمعت بدقة في الحية الإسرائيلية، التي أجادت استخدامها بحرفية خارقة، لإذابة مقاومة الطيار المهووس، دون أن تمنحه سوى قطرات ضئيلة من قطف القبل، لتتركه يلهث محموماً ثائر الرغبة، على وعد بإغراقه في محيطها، وإذاقته لذائذ جسدها اللاسع، بهضابه، وسهوله، وأغواره، وهذا لن يكون أبداً، ولن يتحقق إلا خارج العراق.. بباريس.

وظهر اليوم التالي، عندما غادرت عميلة الموساد مطار بغداد، أجزمت بأن روفا لن يهنأ له بال، حتى يلحق بها. فمذاقات النشوة التي أذاقته بعض قطراتها، كفيلة بأن تغيّب عقله وتشتته، وتقذف به الى عوالم أكثر متعة، لم يألفها طوال حياته، ولا وجود لها سوى بين أحضان ابنة الموساد المدربة.

وما إن عاد منير روفا الى عمله، حتى تقدم بطلب صحي لعرضه على الأطباء، بدعوى أن الصداع النصفي يفتك برأسه، ويكاد يصرخ منه ألماً. . وفشل الفحص الطبي في علاج الصداع المزعوم أو تحديد أسبابه، مما عجل بالموافقة على التصريح لروفا، حسب رغبته، بالسفر الى باريس في أجازة لمدة أسبوعين للراحة والعلاج.

وفي 19 أبريل 1966 طار منير روفا الى باريس، في رحلة مثيرة كانت بدايلة لرحلة أخرى أكثر إثارة .. وجنوناً. . !!

لم يكن عاميت قد صادف شيئاً كهذا من قبل . .

فمشاعره بلا شك انصبت في اتجاهات أخرى . .

غير تلك التي حيرت رجاله . .

وبهذا فقد ضمّت الحجرة أحاسيس متباينة . .

تولدت أمام المشهد العجيب . . !!
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-13-2008, 06:32 AM   #65
مشرف سابق

((عـالـم تـانـى))

الصورة الرمزية فاي
افتراضي


الحنان الزائف

لم يصدق مائير عاميت ذلك الخبر الصادر عن بغداد، عن حجز منير روفا تذكرة سفر الى باريس على الخطوط الجوية العراقية. قال في دهشة:

هؤلاء الأغبياء يفركون أعصابي . . سحقاً لهم.

ولما خُبِّر بميعاد مغادرته، ورقم الرحلة، توسم خيراً ونطق وجهه بالبهجة، وعقد اجتماعاً طارئاً ضم كبار رجال الموساد، لتداول الخطة التي وضعها ثلاثة من الخبراء، لمكاشفة روفا ومحاصرته، وإغراؤه بالهرب الى إسرائيل بطائرته الميج 21.

قال مساعد عاميت ياكوف كاروز:
سيدي . . نحن بحاجة الى خبراء في الطيران والممرات الجوية للتعامل مع روفا.

أجاب عاميت:
بالفعل نحن بحاجة اليهم . .لكن ليس قبل إتمام الاتفاق مع الطيار العراقي.

كاروز:
وماذا لو أن روفا طلب مبلغاً كبيراً ليس بخطتنا. .؟

عاميت:
علينا أن نتمسك بشدة بمبلغ المليون دولار فقط، ولا مانع إذا زيد الى النصف، أو الضعف، فصديقنا هولمز سيكون الى جانبنا على أية حال.

أحد الخبراء:
كحل افتراضي .. ماذا سنفعل إزاء رفض الطيار العراقي الاتفاق معنا. . ؟

عاميت:
برغم ثقتي في نجاح العملية 007 هذه المرة. .فإن الطيران الى السحاب في صمت (1) متعة مريحة..

غادرت عميلة الموساد – ليزا برات – تل أبيب الى باريس، بانتظار العاشق الذائب، يحدوها الأمل في السيطرة عليه، وتطويعه للقيام بتنفيذ عملية الهرب الى إسرائيل، بدون إثارة أية مشكلات في فرنسا.

لم تكن ليزا وحدها في تلك الرحلة المثيرة، فقد صحبها ستة ضباط من الموساد، بينهم أحد خبراء الاستخبارات الجوية الإسرائيلية.

وعند تقاطع شارعي جيرمان وميشيل، في منتصف المسافة ما بين حديقة لوكسمبورج ونهر السين، يقع فندق ديكلوني الشهير، المواجه لجامعة السوربون، حيث أعد جناح بالطابق السابع لاستقبال الضيف العزيز، تم زرعه بكافة أجهزة التنصت والتصوير، وجُهِّزت الغرفة الملاصقة لتكون مركزاً للمراقبة والتسجيل، بإشراف فريق من ثلاثة فنيي، بينما نزل ضباط الموساد بعدة بيوت آمنة، لا تبعد كثيراً عن الفندق.

كان اللقاء بالمطار حاراً مدهشاً، إذ تناثرت صرخات ليزا الصاخبة عندما فوجئت بروفا أمامها. هو أيضاً كان يحتضنها في شوق مجنون، وكان الأكثر لهفة للقاء الذي تحايل لأجله، يغشاه حنين ممتزج بالعشق لفتاته الحسناء المثيرة، وروعة المغامرة معها في باريس، بعيداً عن أعين المخابرات العراقية، وضجيج العمل التريب في القاعدة الجوية.

أخذته ليز – كما كان يناديها – الى الفندق، ومكث معها عدة أيام يلعق فورة حمم الرغبات، ويصل معها الى آفاق اللذاذات منتشياً.

ولأنها العميلة الماهرة المختارة بعناية، استدرجته للديث عن حياته، ونشأته، وأسرته، وعمله، وقادته، وحكومته، فأفاض في سرد تفاصيل قصته منذ الصغر، والفقر الذي لازم أهله طويلاً، وكيف عاد أبوه من دبي مريضاً لا يقو على العمل، حتى إذا ما تطرق الى أمه بكى منير روفا بحرقة، وهو يصف معاناتها في تربيتهم وتعليمهم، فبكت ليزا لأجله، وأحاطته بحنان زائف خادع. وسألته عن الحكومة العراقية، وكيف لا توفر حياة كريمة للمواطنين، فانطلق الطيار المُعَنّى في سُباب لاذع لحكومته، ولعن حظه التعس لكونه عراقياً.

انتهزت عميلة الموساد الفرصة، وعرضت عليه أن يظل الى جانبها، فهي لا تطيق فراقه مرة ثانية، مع وعد بتوفير عمل مجز له، وحياة معيشية واجتماعية أفضل له ولأسرته.

أبدى منير روفا استحسانه لرأيها، وبعد تفكير عاد فسألها عن ظروف العمل الحر في فرنسا، والدخل الشهري التقريبي الذي يكفل له حياة كريمة.

دهشت الفتاة، وسألته عما إذا كان يفكر بالهرب من العراق، إذا ما أتيحت له فرصة مناسبة. . ؟

أجابها بنعم، وأردف بأنه يفكر جدياً في تحسين وضع أسرته المعيشي، لكن الظروف دائماً ضده، وفي حالة تواجه فرصة مغرية له بالخارج، فلن يتوانى لحظة في استغلالها ومغادرة العراق بأهله الى الأبد.

عند ذلك سألته:
لماذا لا تفكر إذن بالعيش في إسرائيل. . ؟

فوجئ روفا، وأجاب في دهشة:
إسرائيل. . ؟(!!)

قالت في نبرة يشوبها الهدوء:
لقد سمعت أنهم في إسرائيل يعرضون مليون دولار، على أي طيار عربي يلجأ اليهم. .

وكأنه بهت:
مليون دولار. . ؟ يالها من ثروة . . أهذا خبر أكيد. .؟

أردفت:
أكيد جداً. . فلي أصدقاء إسرائيليون هنا في باريس، تطرقوا الى الحديث أمامي منذ أيام عن هذا الأمر.

قال وكأنه لا يصدق:
وهل ستكونين معي في إسرائيل إن وافقت. .؟

ارتمت بين أحضانه تقبله بحرارة وهي تهمس:
سأكون معك في إسرائيل وفي أي مكان تحب .. هل تريد مني استدعاء أحدهم ليتكلم معك. . ؟!

ضمها بقوة وتاه في قبلة طويلة منحتها له، وكانت أحمى من قرص الشمس. .ثم نظرت بحنان الى عينيه وهي تقول:
مونير تعلم إنني يتيمة الأبوين، وأختي الوحيدة تعيش بعيداً في أستراليا، وليس لي الآن إلاك، فأنت الحبيب والأهل. . وأريد أن أكون معك. . في أي مكان. . ولو كان في إسرائيل .

ضغط فكيه في تحد وقطب حاجبيه وهو يقول:
لكن . . لماذا يدفعون في إسرائيل مليون دولار من أجل طيار عربي.. ؟

قالت متغابية:
أنا لا أعرف بالضبط. . وإن كنت أعتقد بأنهم يبحثون عن طيارين أكفاء . . هل تفكر بالأمر يا حبيبي. . ؟

(1) ريتشارد هولمز: المدير الجديد للمخابرات المركزية الأمريكية C.I.A.

(1) إشارة تعني أنه من الضرورة تصفيته في صمت. .أي قتله.

لسعة الخوف

كاد أن يصرخ فرحاً، أن يخترق الجدار الفاصل بينهما ليعانق ليز، ويسجد ضارعاً متوسلاً أمام روفا، هاتفاً:

"هلم . .هلم أيها الطيار البائس الى إسرائيل، ولك مليونان دولار لا مليون. .قل فقط . . نعم. . أوافق . . (!!)"

إنه مائير عاميت، رئيس الموساد بشحمه ولحمه، نهشه غول الخوف من الفشل فطار الى باريس، ليسمع بنفسه ما يقوله منير روفا، وما تصنعه به العميلة البارعة الذكية، ابنة الموساد المخلصة.

كان بالحجرة المجاورة معروقاً يرتجف، واضعاً السماعات على أذنيه، ويشاهد روفا وعميلته بدون ملابسهما الداخلية، يتعاطيان الحنان، بعد جرعة الجنس العنيفة التي أسكرت الصيد الثمين.

لحظتها. . طلب من فريق الفنيين تغطية الشاشة، وتثبيت زووم الكاميرات، قائلاً:

"إن فتاتنا تؤدي عملاً مقدساً واجب علينا احترامه، والنظر اليها بكل تقدير ممكن. فهي تهب الوطن – إسرائيل – الأمن، وتبذل جسدها رخيصاً في سبيله. هكذا تفعل فتياتنا بلا خجل لكي نحيا، وتبقى أرض الميعاد زاخرة بالرخاء".

لقد تحول رئيس الموساد أمام مشهد "التضحية"، الى رجل دين ينثر وصاياه ويلقي مواعظه، وطاف الغرفة يستطلع وجوه رجاله، وقد تسمروا كالأصنام أمام تحوله الفجائي الى حاخام، فقد كانت تلك هي المرة الأولى، التي يشاهد فيها عاميت مصيدة العسل، وهي تطبق أذرعها الناعمة "الفولاذية"، فتعتصر الفريسة بلا رحمة، أو شفقة، وتمتص فيها قوتها ومقاومتها، حتى تحيلها في النهاية الى قطعة عجين، يستطيع طفل وليد أن يُشكلها، ويصنع بها ما يشاء.

كان روفا بين أحضان ليز لا حول له ولا قوة، إذ أجهزت عليه تماماً وأسبغت حوله جواً صافياً من المتعة، وهيأت له بخبرتها – دون أن يدرك – فكرة الهرب من العراق. فكان تارة ينصت اليها راضياً، وسرعان ما يتراجع تارة أخرى. هكذا دواليك لخمسة أيام متعاقبة، لم يغب منها عاميت يوماً واحداً، فكان ينتشي مع رضاء روفا وموافقته، ويكبو عقله متحسراً عند تراجعه.

وأعطيت الأوامر لابنة الموساد، أن تنتهز أول فرصة لمواجهته، والضغط عليه بقوة في اللحظة المناسبة. فالطيار العراقي تعلق بها تعلق الطفل بأمه، ولم يعد بإمكانه الإفلات من قبضتها المطبقة.

وعندما كان عارياً يمارس هوسه الجنسي في شراهة الجائع سألته:
ألم تفكر بعد في مستقبلنا معاً. . ؟ ألا تريد المليون دولار. . ؟

هتف الغارق الثمل:
لن أدعك تبتعدين عني بعد اليوم. .

وهي تدفن وجهها بصدره:
أتعدني .. ؟ حتى وإن كنت بإسرائيل. . ؟

ضمها في لهفة وهو يقول:
سأهرب إليكِ وإن كنتُ بإسرائيل..

كانت ما زالت بحضنه:
أخاف أن تنسى ليز وأنت تملك المليون دولار..

في نبرة مشحونة بالصدق:
سأثبت لك أنني أحبك .. ولو كانت أموال العالم ملكي.

وهي تقصد استثارته:
إذن هل أدعوهم الآن لمقابلتك. . ؟ أم أنك ما زلت تشعر بالخوف. .؟

أجاب دون تردد:
أنا أخاف. . ؟ ممن . .؟

غمزت بعينها في رقة وهي تقول:
من مواجهتهم.

في غيظ:
من . . ؟

وهي تنظر في عينيه في جدية وقد فلفت صوتها بالحنان:
أصدقائي الإسرائيليين. . الذين سيؤكدون لك ما قلت.

اعتصرها بشدة وهو يقول:
سأحبك وإن كنت إسرائيلية. . وسأحب أصدقائك أيضاً.

هتفت:
أوه . . مونير. .إنهم يطرقون الباب . . لقد جاءوا.

كان عاميت يستمع الى الحوار الدائر بينهما، وأعطى إشارته بالدخول عليهما. فتأخرت ليز قليلاً ريثما يرتديان ملابسهما، وفتحت الباب.

بدا منير يرتجف فرقاً عندما أطل رجلان، أنس قليلاً الى ابتسامتيهما، وقام مصافحاً، فحياه كل منهما بالعربية السليمة.

أنا أبو داود . . رجل أعمال ومولود في بغداد.
وأنا أبو موسى . . صديق أبو داود. . وولدت في تل أبيب.

تلعثم روفا ولم يدر بما يتكلم، فبادرت ليز:
وهذا النقيب طيار منير روفا من بغداد.

في دهشة تكلم منير سائلاً أبو داود:
قلت أنك من بغداد. .؟

ملأت وجهه ابتسامة عريضة وأجاب:
نعم. . أنا عراقي ولدت في بيت جدي بجوار مسجد الكاظمية، عند دكانة جابو.

بدهشة صاح منير:
دكانة جابو . . !! أنا أعرفها فمازالت قائمة خلف المسجد.

وكأنهم أصدقاء قدامى يتذكرون ما فاتهم، قال أبو داود:
ألا تعرف شارع نعوم في المستنصرية.. ؟

صاح منير متعجباً؟:
أوتعرفه .. ؟ إنني من سكانه.. أهلي ما زالوا هناك. . قال الضيف وهو يبتسم بشوشاً:
كانت عمتي روزينا الحائكة تقيم به حتى ماتت.

ارتفع حاجباه دهشة وهو يقول:
يا إلهي . . العمة روزينا. .؟ لقد تربيت في حجرها وكنت أزورها لتعطيني الحلوى.. إن والدتي بكت خلف جنازتها، أما أنا فقد كنت مازلت طفلاً.

كان عاميت خلف الجدار يصفق بيديه منشرحاً، وينصت باهتمام عبر السماعات الى حديث روفا وأبو داود. لقد امتص أبو داود لسعة الخوف الأولى التي انتابت الطيار المذعور، واستطاع بهدوئه الذكي المعهود أن يكسبه الى صفه، وأن يعيد اليه توازنه النفسي المهتز، خلال لحظات قليلة من اللقاء.

كان أبو داود دبلوماسياً في الحوار، تغلف صوته نبرة محببة تأسر قلوب مستمعيه. أما أبو موسى فقد أصيب بالدهشة وسكت عن الكلام، حيث لم يترك له زميله الفرصة ليستعرض مواهبه، خاصة والحوار يدور حول ذكريات وأماكن لا يعرفها في بغداد.

وبعد مرور ساعتين تقريباً، كان طقس اللقاء المثير مريحاً حقاً، وأضفى تواجد ليزا بينهم أُلفة أحاطت روفا بالطمأنينة، وأخرجته بسهولة من دائرة الارتباك، حتى أن ضحكاته الرنانة العالية، كانت خير مؤشر لسكينته.
فاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
رد



تعليمات المشاركة
لا تستطيع كتابة مواضيع
لا تستطيع كتابة ردود
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
الانتقال السريع إلى


الساعة الآن: 03:16 AM


Powered by vBulletin® Version 3.6.8
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات المروج المشرقة