نتابع
سعيد العبد الله . .صريع لغة الجسد
الطابور النائم
كانت أوليات مهام شولا كوهين في بيروت، السيطرة على أكبر عدد من المسؤولين الحكوميين بواسطة الجنس، حتى إذا ما ترقوا في وظائفهم وأصبحوا ذوي شأن في صناعة القرار، أعيد من جديد إيقاظهم للعمل لصالح إسرائيل، وهؤلاء يطلق عليهم العملاء النائمون. فحينما يتبوءون المناصب العليا، يسهل إخضاعهم لتمييع المواقف السياسية المستقبلية ضد إسرائيل، ويشكلون بذلك طابوراً طويلاً من المسؤولين يدور في فلك إسرائيل .. وينفذ سياساتها دونما انحراف عن الخط المرسوم.
لذلك، وسعت شولا من علاقاتها بالمسؤولين اللبنانيين، وكانت الدائرة شيئاً فشيئاً، تتسع لتشمل موظفين رسميين بشتى الجهات الحكومية، كلهم سقطوا صرعى الجسد الناعم الملتهب وفورانات الإثارة.
وبالطبع، لم تكن شولا بقادرة وحدها على إشباع رغبات كل هؤلاء، إنما عمدت بحاستها المهارية الى التعرف على فتيات حسناوات، باحثات عن المال، جمعتهن حولها وسخرتهن لتوثيق دائرة معارفها. واستلزم منها ذلك تأجير شقة أخرى، لتخفيف حدة زحام جوعى اللذاذات بشقتها.
وفي عام 1956 كانت تستأجر خمسة منازل في مختلف أنحاء بيروت، مجهزة بأفخر أنواع الأثاث، ومزودة بكاميرات دقيقة وأجهزة تسجل كل ما يجري بغرف النوم، وكانت أشهر فتاة لديها، طفلة أرمينية تدعى "لوسي كوبيليان" عمرها أربعة عشر عاماً تخلب بجمالها الألباب وتذيب العقول.
هذه الطفلة المرأة كانت إحدى نقاط القوة في شبكة شولا.. فقد تهافت عليها الرجال كالذباب، وسجدوا لجمالها وفتنتها، أما شولا – الزعيمة – فآثرت ألا تمنح جسدها إلا لكبار المسؤولين ذوي المراكز الحساسة كي تستخلص بنفسها ما تريده منهم.
ولما تزاحم العمل، رأت الموساد أن تعضد شولا في مهمتها، فضمت اليها اليهودية "راشيل رافول" في طرابلس، وبانضمام راشيل، اتخذت شبكة شولا مساراً جديداً لم يكن في الحسبان..فالعضوة الجديدة مدربة وماهرة جداً.. ولها خبرة طويلة بأعمال الدعارة في لبنان.
وبالتعاون مع "إدوارد هيس" ضابط الارتباط الإسرائيلي في بيروت، أمكن القيام بعدة عمليات جريئة لتهريب أموال اليهود اللبنانيين المهاجرين لإسرائيل، بوسيلة "إشهار الإفلاس"، التي سهلت عملية "إميل نتشوتو" التاجر اللبناني اليهودي، الذي هرب لإسرائيل بعدما سرق ملايين الليرات من البنوك والتجار. وكذا عملية "إبراهيم مزراحي" التاجر الطرابلسي الشهير الذي هرب أيضاً بالملايين الى اليونان، ثم لإسرائيل، بينما انخرطت زوجته "ليلى مزراحي" في خدمة الشبكة . . لتسهيل عمليات تهريب أخرى بما لها من علاقات بزوجات أثرياء اليهود.
وبتهريب يهود لبنان بأموالهم المسروقة الى إسرائيل..أضير الاقتصاد اللبناني ضرراً بالغاً، واضطرت بعض المصارف الى الاستغناء عن خدمات بعض موظفيها المتورطين، وكاد للعملية كلها أن تنكشف لو لم يكن هناك مسؤولون كبار أمكن السيطرة عليهم من قبل.. استطاعوا في الوقت المناسب عمل تغطية للفضيحة وإخمادها الى حين.
جنت شولا كوهين ثمار عملها، واستشعرت قيمة مهمتها في بيروت للسيطرة على الكبار بالجنس، ذلك لأن محمود عوض أول الخاضعين لها لم يتوان عن التستر على نشاطها، ومساعدتها بما يملك من سلطات في نهب اقتصاد بلده.
هكذا دفع النجاح شولا كوهين لتطور من أسلوب عملها، وتنتهج مسلكاً أكثر فعالية في العمل.
ابن الجنوب العاشق
بعدما اتسع نطاق شبكة الجاسوسية، وبالتالي تعددت مصادر التقارير والأسرار، كانت شولا تعاني من صعوبة نقل المعلومات المتدفقة عليها الى إسرائيل، ورأت أن الحل يكمن في تجنيد أحد اللبنانيين قاطني الجنوب نظراً لسهولة تسلله الى إسرائيل بالمعلومات والتقارير، دون أن تثير تحركاته أحداً.
فكرت جدياً بهذه الحيلة، في ذات الوقت الذي سعت فيه لإيجاد مركز يجمعها بجواسيسها، وبواسطة كبار المسؤولين اللبنانيين، استأجرت عميلة الموساد إحدى الكافيتريات بشارع "الحمراء"، وحولتها الى "بار" يزدان بالديكورات والحسناوات أطلقت عليه اسم بار "الرامبو".
ومع الخمر والليل وجدت ضالتها المنشودة في شخص ابن الجنوب الساذج – محمد سعيد العبدالله – الذي حملته ساقاه ذات مساء الى البار ..فتسمر منبهراً باللحم الأبيض يتراقص ويتمايع، معلناً ويعلن عن مواطن الإثارة في صراحة..وثقلت عليه رغباته المكبوتة فتاه عقله، وأحكمت شولا سيطرتها عليه بعدما تأكد لديها أنه سقط لآخره في براثنها.
وفي ليلة حمراء أريقت فيها الخمور المعتقة، وذبلت العيون وتراخت الأعصاب في وهن، فاتحته في الأمر. وكم كانت واثقة من إجابته، فإنه على استعداد لأن يفعل كل شيء في سبيل ألا يخسرها، أو يضيع لحظة واحدة من أوقات المتعة التي أدمنها. فحملته بالتقارير والمعلومات، وتسلل بها الى الجانب الإسرائيلي..ولم يرجع اليها بأوامر الموساد الجديد فقط، بل اصطحب معه ابن عمه "فايز العبد الله" الشاب المغامر..الذي يعرف الدروب الجبلية ومواطن الضعف الأمني بمناطق الحدود الجنوبية.
وعلى انفراد، أخبر شولا بأن ابن عمه مستعد هو الآخر للانضمام الى شبكة الجاسوسية مقابل المال. فلم تمنحه شولا المال وحده، بل وهبته أجمل فتياتها اللاتي ضيعن لبه، وسحرنه بما لم يألفه من متع النشوة، ليدور في النهاية كسابقيه في فلك الخيانة والتردي.
وأخيراً جاء لها سعيد بابن العم الثالث "نصرت العبدالله" طائعاً مختاراً هو الآخر، وكأنما عائلة العبد الله قد جبلت كلها على الخيانة واعتادتها..
وبذلك أمكن لشولا أن تنقل ملفات تقاريرها أولاً بأول عبر هؤلاء الثلاثة الى قادتها في إسرائيل دونما صعوبة. .أو تشكك من الجهات الأمنية اللبنانية..
بذلك..تحول ملهى الرامبو الى مركز لاصطياد الجواسيس وملتقى لهم في ذات الوقت، وأيضاً، ليعاين كبار الموظفين اللبنانيين الفتيات المثيرات المختارات فتتضاعف خدماتهم لشبكة شولا..في وقت لم تكن ظروف الأمن في لبنان مهيأة لتتبع النشاط التجسسي الاسرائيلي في بيروت، بسبب انشغال الميليشيات الطائفية بتسليح نفسها، على حساب قوة الجيش والأمن الداخلي.
لقد انقلبت المفاهيم العسكرية في لبنان حتى أن قوى الأمن الداخلي كانت في حالة صراع لا يتوقف مع الجيش. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبودلت الأدوار أيضاً وتسلمت قوى الجيش حراسة بعض المرافق العامة بدلاً من قوى الأمن الداخلي، واستعمل الجيش كنقاط أمنية منفردة بعيداً عن ملاحقة الميليشيات العسكرية، التي كانت تستولي على آليات الجيش ومدرعاته وأسلحته، واعتقاد رئيس الجمهورية اللبناني في قصر "بعبدا" أنه هو لبنان، وهو الشرعية.
وبسيطرة العقلية العائلية على نظام إدارة الحكم والدولة، كان هناك استرخاء أمني أدى الى تغلغل الجواسيس وانتشارهم في ربوع لبنان، حيث لا يوجد جهاز مخابراتي نشط بتعقب الجاسوسية المضادة. . أو يعمل على وقف سيلان المعلومات الحيوية عن الدولة الى العدو المتربص في أقصى الجنوب.
عزيز الأحدب
تغافل محمود عوض، المسؤول اللبناني الكبير عما تقوم به شولا في لبنان..مكتفياً بالليالي الملتهبة بين أحضان الحسان، ولما أدرك قيمة الخدمات التي يؤديها مقابل الجنس، صارح شولا بأنه الخاسر بلا شك..وطالبها بمقابل مادي حيث أن هدفه الأسمى في الحياة هو المال والثراء.
انزعجت شولا لطلبه الجديد فهو ثري في الأصل، وما كان يطلب منها سوى فتيات صغيرات جميلات يعدن اليه شبابه.
وبرغم سيطرتها عليه بوسائل عدة، منها تصويره في أوضاع شائنة مع أكثر من تسع فتيات، إلا أنها نفت فكرة تهديده، ذلك لأنه يعرف جيداً كل المتعاملين معها من ذوي المراكز، وكتبت بذلك الى رؤسائها فوافقوا على رأيها، فأغدقت عليه الأموال مقابل تقاريره عن موظفي الدولة والدوائر الرسمية، التي كان يحملها العبد الله الى الاسرائيليين عبر الحدود في أوقات معينة متفق عليها.
وفي مايو 1958، وصل الى بيروت ضابط سوري مسؤول، اجتمع من فوره بأحد ضباط الأمن اللبنانيين، وأبلغه بنشاطات شولا كوهين المشبوهة.. وإحاطتها بأسرار غاية في السرية عن الجيش اللبناني والسوري معاً.. تجلبها من خلال شخصيات على مستوى المسؤولية في البلدين على علاقة بها.
كانت خيبة أمل الضابط السوري كبيرة، عندما أخبره زميله اللبناني بأن شولا بعيدة عن الشبهات. وتم حفظ محضر الاجتماع في الأدراج برغم تأكيدات السوريين.
وفي بداية عام 1961 وقع محضر الاجتماع تحت يد ضابط لبناني شهم اسمه "عزيز الأحدب" فقرأ ما تحويه السطور.. وبدأ في جمع المعلومات في سرية تامة عن شولا.. وفوجئ بعد عدة أشهر من المراقبات والتحريات بأن الفتاة تدير أكبر شبكة جاسوسية إسرائيلية في لبنان.. امتدت نشاطاتها لتشمل كل مناحي الحياة المدنية والعسكرية، ليس ذلك فحسب، بل تجمعت لديه أدلة كافية، بأنها وراء عمليات تهريب اليهود اللبنانيين الى إسرائيل، بواسطة "آل العبدالله" الذين يجيدون استخدام الدروب الوعرة في الجنوب.
هكذا، وبعد تسع سنوات من التجسس، ألقى عزيز الأحدب القبض على شولا كوهين في أغسطس 1961، واعترفت في الحال على شركائها، واثقة من أن نجدة ستجيئها حالاً من إسرائيل.
وأمام القضاء العسكري اللبناني تكشفت حقائق مذهلة، عن تورط شخصيات عديدة مسؤولة، في إمدادها بأدق الأسرار والتقارير التي تمس لبنان وكيانه.
أصدرت المحكمة في 25 يوليو 1962 حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً على شولا كوهين، التي أطلق عليها اليهود لقب "الزعيمة" و 15 عاماً على زميلتها راشيل رافول.
أما محمود عوض فقد قضى نحبه في سجن الرملة في يونيو 1962 إثر نوبة قلبية فاجأته قبل الحكم عليه، فلقي جزاء ربه وحكمه العادل.
لكن المثير للدهشة حقاً، أن يصدر حكماً بسجن آل العبدالله الثلاثة عشرون شهراً فقط لكل منهم . . الى جانب أحكام أخرى بالسجن تقل عن عام على مسؤولين لبنانيين ضالعين في الجاسوسية، بما يؤكد ما ذكرناه آنفاً من ميوعة القوانين الجنائية التي يعمل بها في لبنان، وكانت سبباً رئيسياً من أسباب تحول بيروت الى أشهر عاصمة عربية يأمن فيها الجواسيس على رقابهم، وساحة تباع فيها الأسرار القومية بأجساد النساء وتشترى..!!
تمت
انتظرونا مع فصول أخرى
من هذا العالم الغامض
عالم الجاسوسية