السمكة والقديد
هذا موضوع سبق نشره ، لكني أضعه هنا لعلاقته بالموضوع التالي المعنون ( القطة والخيار ) اتمنى الاطلاع المتأني ، و التعقيب أو التساؤل أو تنشيط الموضوع ، و انا على استعداد دائما للتجاوب بابداء رأي و توضحيات ما اقصده. ارجو تفهمكم و فهمكم .
قيل :وربما دعا الخوف من البقاء عرضة للعراء أمام ما يأتينا من الخارج وخاصة على مستوى القيم، هو ما يدفع الكثيرين إلى التشبث بالماضي وقيمه...د يوسف بن الغياثية
...........
تركا بقية المجموعة في المعسكر الصغير الذي أقاموه على شاطئ البحر عند حافة الجبل يعـِدون وجبة من اللحم المقدد مع القليل من السردين و صغار السمك المشوي على نار طبيعية، حطبها أغصان جافة من غابتهم.
انفردا معا قرب الشلال، هاربيـْن من أنباء الشرق الأوسط والسأم، وأخذا يتحاوران بين نقرات الكؤوس ، متكئين على مسطح صخري لامع تتخلل شقوقه زهور منتعشة بين الأعشاب النضرة، والليلة صيفية قمرية. يغمرهما عبير الأشجار والأعشاب و التربة الخصبة ،مندفعا من الغابة خلفهما، و بعض همسات مخلوقات الله التي تسعى بين الأعشاب ليلا جذلة بنور القمر تؤنسهما، و ينعشهما البحر من الجهة المقابلة ، بتيار من نسمات اليود و موسيقى الأمواج المتلاحقة في تؤدة إلى حافة الجبل، ورائحة القمر التي تفترش سطحه في ثبات مطـْمـَئن و مطـَمـْـئن، لا تتحرك ومضاتها الذهبية المبهرة، إلا عند اضمحلالها حيث تسعد بامتصاص رمال الشط لها مخلفة بعض نثراتها على سطحه.
- أتمنى لو صعد سيل هذا الشلال من مهبطه على صخرات الشاطئ ليصبح نافورة، ترتد مياهها إلى منبعها المالح لتلتهمها الأمواج المتكسرة على صخرات مهبطها.
- السأم يعكس الأمور متحالفا مع اليأس لديك، هذا شلال ينبع من فجوة في قمة الجبل منذ مئات أو آلاف السنين هادرا ينحت صخرات الشط ،شاقا طريقه المميزة في أعماق البحر، بينهما برزخ لا يلتقيان، يمكنك أن تتمتع بمنظره و موسيقاه، أو تشرب منه أو لا تشرب وتتركه لشأنه، وقد تتمتع بنقر مياهه تسقط فوق جسمك لتدفع عنه كسله، أو تحاول أن تخلط مياهه ببـَولـِك النتن اثناء بـُصاقك أيضا لو شئت، لكن كل ذلك لن يغير من كونه شلالا ينهمر بالمياه العذبة، ولن يغير في قيمته أو قمته كل ما تفرزه من عرق وبصاق و بول و أكثر من ذلك. أنا أعرف أنك ترتكب أكثر من ذلك عندما تكون منفردا بالشلال، تكاد حدقتاك أن تتدلي على خديك من ضغطك على مخزونك من التشوه واليأس الحاقد على تلك المياه عذبة النقاوة. ناسيا أو جاهلا أو متناسيا أو متعاميا، أن الشلال يطهرك من كل إفرازاتك ، ولا يتسخ بها ، فهو شلال شفاف المياه، يكنس فضلاتك بدون ملل ، ويدعو لك بالسلامة أيضا و بدون مقابل.
- إن مياهه تخترق البحر في طريقها إلى اللا مكان على أية حال، فهي لا تستثمر في الزراعة ولا يتم تخزينها بعد تنقيتها ، فتتضاعف قيمتها لتبقي ذخرا للأجيال القادمة، خصوصا وأنهم يرعبوننا بأن العالم مقبل لأول مرة على أزمة تستلزم تنويع مصادر المياه !
- هذا لا يجعلنا نتمنى استبداله بنافورة مياه مالحة ، بل يـُحفـِـُزنا على بناء سد عالٍ على شاطئ البحر أمام الشلال يتسع عريضا و يمتد طويلا و يعلو مرتفعا، يلتحم عند نهايتيـْهْ بالجبل في احتضان رومانسي ، فالجبل يزود السد بالمياه ، والسد يحفظها ويـُرَسـِّبُ كل تشوهاتها أسفله ليسـَربـُها طعاما للسردين، أما المياه الصافية فتمتصها نقية عروق أشجار الغابة و تربتها، لكي تزدهر غابتنا بالمزيد من الخصب ، و تتضخم الأشجار ارتفاعا وتفرعا .
- اشرب. اشرب حتى تعي جيدا ما تقول،اشرب لا تفسد ليلتنا بسيرة السنين والطهارة العذبة والافرازات، اشرب، ليت هذا الشلال خمرا لا ينتهي، حتى نحافظ على وعينا الذي تـُغـَيـْـبه رومانسية الشلالات والترسـُب والازدهار.
وشربا حتى سمع جوفاهما نداء المشويات، ... و ارتعشت صنارته المغروزة غير بعيد في رمال الشاطئ تنتظر ما يأتي به شصـُها الغاطس تحت أمواج الذهب، التي يبثها قمره على السطح، سحب خيط الصنارة فإذا بنهايته سمكة كبيرة الحجم ،جيدة اللحم ،لم يتوقع أن يتوفر مثلها في هذا الوقت من الليل بهذه المنطقة تحديدا، جذبها جذلا ، حملها إلى حيث ثـُلة الأصدقاء وحطب الغابة المشتعل، كان ما جلبوه معهم من اللحم المقدد واسماك السردين كافيا، أغناهم عن الحاجة للسمكة الطازجة والغريبة..رأى أحدهم وضع السمكة في إناء تحت مياه الشلال الباردة، مما يحفظها طازجة فتكفيهم لعدة وجبات متتالية، ومنهم من فضلها قطع صغيرة تؤخذ خلف الكؤوس المترعة مباشرة، و أحدهم أراد أن يـُبقر أسفلها متشككا في مكنون جوفها ، واقترح غيره القائها في النار مباشرة لتـُحرق تماما، نظرا لخطورة التعامل مع نوعها الغير معتاد، وقال أحدهم اليوم خمر و غدا أمر، جئت متوسلا كأسا وصدرا شهيا، ولم آتي لأفكر واقترح .
قالت أحداهن، لو كنت املك ذاكرة هذه السمكة التي تبدو أنها جالت هذا البحر كله وربما أتت من المحيط ، أود أن اسألها كم رأت من مناظر بديعة جعلتها تسبح للخالق مع كل جرعة ماء تتنفسها ، كم رأت من مرتفعات مرجانية و غابات بحرية؟ كيف أرعبها ذات مرة قرش مارق ؟ كم مرة تسربت من بين فكي حوت ازرق؟ و كم بيضة باضت ، وكيف هم أولادها و أحفادها؟؟
- ربما هذه السمكة اللذيذة هي أحد حفيداتها.
مندفعا بنقرات و رنين الكؤوس المتعاقبة في رأسه هرول برأس السمكة المشوية إلى الإناء، ليسأل السمكة المدهشة إن كانت تعرف هذا الرأس وهل هو لأحد أحفادها ؟؟ ضحك أحد رفاقه حتى غص بما في حلقه، و البعض أطلق قهقهة وأعقبها بعدة كحـَّات حادة، ووقفت احداهن راقصة استهزاءا بمن لم تستحمل رأسه مفعول بعض الكؤوس، جاهلة أن رقصها يفضح أن رأسها حلق عاليا بعدد أقل من الكؤوس، التي جعلتها لا تهتم بانزلاق احد قطعتي ملابس السباحة بشكل مستفـز. أما هو فقد انكفأ على الإناء صائحا في ذهول لا توجد سمكة هنا ! أين السمكة اللعينة؟ هل خبأها أحدكم في مكان ما ليستفرد بها لاحقا ؟؟
- هي سمكة وليست عروسة بحر يا أهطل .
- اذهب إلى الجحيم ، إذا لم تكن عروسة بحر فكيف اختفت ؟
- لعلها أنبتت جناحين لتقفز إلى البحر، أو لعلها أعجبت بالغابة، فصعدت عكس الشلال و تسلقت أحدى الشجرات لتسخر مننا.
- اتفوه، اشربا لكي تعيا ما تقولان. لعن الله السمكة و الأجنحة العرجاء والشجر وعروس البحر أيضا. و أتفوه حتى على الجحيم.
- لا، لا انتظروا إني اسمع ضحكاتها الساخرة كالشخير تأتي من هذه الناحية.
المدهش أن الجميع صمت، والجميع انتشاء بحفيف أوراق الشجر، و همسات مخلوقات الله الساعية، وشخير السمكة الآتي من عل. ثم أفاقوا مع تجرعهم لجولة الكأس التالية، وأخذ صاحبنا يحايل السمكة متوسلا أن تهبط من عليائها و تروي لهم ذكرياتها عن قرب، إلا أن السمكة المندهشة أيضا، أبت في عناد غريب أن تثق بأحدهم، بعد أن عرفت نواياهم المختلفة، بقيت متعلقة في عليائها ، تنظر إليهم بعينين بارقتين بالسخرية والغيظ.
- لنتركها فوق الشجرة، و غدا سنصطادها ببنادق صيد طيور الموسم القادمة من أفق البحر.
يبدو أن الجميع وهم في عليائهم المشتعل بحطب الغابة و القديد، ارتاحوا لهذا الرأي، لأنه يريحهم ولا يخرجهم من وهـْــِمِ سعادتهم فلم يمعنوا الرأي و تركوا السمكة قابعة على غصن علوي.
مع دفع الضياء للظلام، و اتضاح خط أفق البحر والكثير من البقع البيضاء فيه، قام كل منهم أو منهن بجذب رفيقه إلى خيمته، ليغيبا في معمعة الهرب من ضياء الصبح، معلنا انتهاء ليلة طويلة، مشبعة بالسمك المشوي وشخير الأشجار.
وعندما لسعتهما نار الظهيرة ، أخرجوا رؤوسهم من فتحات خيامهم، في التـِواء عجيب لا ينظر إلى الأمام حيث البحر بجمال خيوطه البيضاء عند الأفق الصيفي، ولا للغابة الوارفة الضلال متعددة الألوان، بل نحو شجرة معينة، بحثا عن السمكة الرعناء، وكان كل منهم يحاول أن يتذكر موقع بندقيته، وأحدهم أعد خنجرا إضافيا.
.....
قيل : ينبغي، إذن، ألا نتقاعس عن التعامل مع هذه القضايا وغيرها لمجرد أنها تُثار وتنعكس علينا من مرايا الآخرين، فيركبنا العناد، متصوِّرين أننا بذلك ندافع عن "هويتنا". ليست هويتنا هي "التخلف" ومقاومة "التطور"، ومن العبث أن ننحاز إلى صفوف دعاة "التجمد" باسم الدفاع عن الدين والهوية.
.....
يتبع في موضوع القطة والخيار
....
سلام
|