بين الخيال والذاكرة
بين الخيال والذاكرة
{غالبا ما يحملنا الخيال إلى عوالم وهمية ، ولكن من دون الخيال لا يسعنا الذهاب إلى أي مكان}
{ يخلط الكثيرون بين خيالهم و ذاكرتهم }
لو عاش مفكر محايد، في سن الخمسين من عصرنا الحالي إلى أن بلغ المائة والخمسون ، واستلهم الوحي الذي أبلغه بما حدث لنا في العالم الآخر ، لأصبح المرجع التاريخي الأكثر نقاوة من الوسائل الأخرى، لأنه شاهد عيان تنفس الأحداث وضاق مرارة الوقائع ولامس النتائج والمتغيرات.
اجتمع بعض طلبة الدراسات العليا لسماع رأيه في زمن أجدادهم الذين عاشوا شبابهم عند مطلع القرن الواحد والعشرين. قال الرجل:
الكثير بل الكثير جدا من الناس الطيبين، نالوا رضا الرب فأكرمهم بأكثر مما وُعدو به، رحم الله بعض أجدادكم وغفر لهم لحسن نيتهم وغباوتهم معا، فهم بعد أن وصلوا للجـَنـَّة و شربوا حاجتهم من أنهار الخمر انطلقوا مسرعين خلف الحوريات التي مات أغلبهن من الضحك مما سرده أجدادكم عن تاريخهم الدنيوي. فخجلوا قليلا واكتفوا بالباقيات الصالحات.... اللائي لم يسمعن عن فظائعهم المغفورة لهم بشفاعة حارة من ظروفهم البائسة.
.........
أما بعضهم الآخر فقد تصدروا القائمة بشكل ملفت للنظر:
فأنت : جدك مات موته بشعة في عملية انتحارية و نال لقب شهيد بامتياز، لكنه فوجئ بحساب عسير، لأن قتل المدنيين الآمنين قبل أن ينهوا وجبة الظهر في مطعم هادئ، لا يعتبر استشهادا بمقاييس الرب مثل دحر العسكريين في الميدان عند الضرورة القصوى. ثم بعد عدة قرون من التقلب في الجحيم بمقاييس ذلك العالم، أنتهت فترة الجحيم، فشرع ذخيرته مسرعا نحو شارع الحوريات، لكنه وجد زوجته واقفة له بالمرصاد عند الناصية ، تقاطيعها مفعمة بابتسامة شامتة ، ملوحة بورقة تمنحها صلاحية منعه من ولوج تلك المنطقة، فقد كانت الفقرة الثانية من الحكم هي البقاء مع زوجته الدنيوية فقط ، على ناصية شارع الحور العين بالذات. فهل هناك عقاب أكثر عدلا لجريمة بشعة أراد مرتكبها الهروب من زوجته النكدة إلى الحوريات مباشرة؟؟
...........
وأنت: ماتت جدتك غما، لأن زوجها أصر على عدم خروجها من البيت إلا بأقل قدر بالغ الضرورة، على أن تكون مغلفة بغطاء كامل لا يظهر منها لعيون رجال الحارة المتسكعين على الناصية و أمام دكان البقال إلا كفيها، وذات مرة سمع البقال المجاور الذي كان يجلس أمام دكانه مع شلة من المتسكعين أصحابهما، سمعه يتغزل في جمال أصابعها ونقوش الحنة على كفوفها وهي تمر في وسط الشارع غير مدرك أن زوجها يجلس بجانبه، فانتظر جدك عودة زوجته للمنزل ولكمها عدة لكمات في أنحاء مختلفة من جسدها ، وأتبع ذلك بركلتين إضافيتين على مؤخرتها ، وعض كل أصابعها ، ثم التهم خنصرا واحدا ، و هددها بهجر فراشها وبالطلاق إن خرجت مرة ثانية مظهرة أي عقلة إصبع للمتسكعين. ولقد مات جدك كمدا قبلها بعدة سنوات بعد أن لمح وجه امرأة جاره وبهره حسنها ، فقرر إغوائها لكنه عجز عن استمالتها، وعندما أنهي فترة تقلبه في الجحيم وتفق يبحث عن الحور العين مر بزوجته مسترخية بين عدد لا يقل عن سبعين حوريا كاملي الذكورة. فمات غما و كمدا مرة أخرى رغم محاولته المستميتة ليصل إلى شارع الحوريات. العقاب من جنس العمل.
............
أما أنت: فإن جدك كان يترأس هيئة بوليسية في زمن الدكتاتور (س) الشهير، وكان ينفذ رغبات ذلك الزعيم الساديه بدون تردد. معتقدا- لثقافته المشوهة - انه لن ينال أي ذنب نتيجة نفخه بعض البشر بالهواء الساخن، أو نزع أظافرهم أو لسعهم بالكهرباء في الأماكن الحساسة بين حين و آخر، ليعترفوا قسرا بنواياهم ضد الزعيم وأتباعه. ثم يشرع في كتابة تقريره المنمق بعلامات النصر المبجل في نزع الاعترافات من أعداء الشعب وأعداء الحرية في صفاقة بغيضة ، لقد كان يحاسب الناس على الإشاعات التي تنسب إلى نواياهم. ولقد نال قصرا وسيارة بسائقها وبعض الحثالات للحراسة في حياته الدنيوية، وكان ينام مطمئنا مستبشرا و حالما بما سيناله من قصور في الجنة أيضا لأنه يؤدي واجبه بكفاءة ، أما عند الحساب فقد كان البند الثاني من الحكم الصادر عليه من ملائكة الحساب ، هو نزع أصابعه من منبتها، كما نزع أظافر الأبرياء في الدنيا واستمرار انتفاخ بطنه وانفجارها بروائحها الكريهة بشكل متكرر، كما كان ينفخ البشر في الحياة الدنيا، و امعانا في عدالة السماء ، فقد نال نصيبه من الحوريات بعد أن نـُزع قضيبه وملحقاته أيضا مرة واحدة بدون كهرباء ، كما لسع الكثير من الأبرياء في الأماكن الحساسة . فالسماء عادلة جدا.
............
هذا ما يتصدر قائمة البعض من جدودكم، وبعض آخر كانت ذنوبه مدعاة لسخرية الحوريات:
أحدهم وأمثاله كثيرون عج بهم مجتمعكم، كان يتبجح في مجلسه بوجوب العدل بين الناس لكنه كان يقود سيارته وكأن الطريق ملكه الخاص فلا يعطي أولوية العبور لمن يستحقها، ولا يعطي الإشارات الواجبة لكي لا يربك غيره من السائقين. فكان عقابه أن ينتظر عدة قرون بمقياس ذلك الزمن منتظرا دوره ليهرول إلى شارع الحوريات الذي كان يبتعد عنه كلما اقترب منه كالسراب تماما.
والآخر كغيره ممن تعج به مجتمعاتكم، كان يظن التقوى، يربي ذقنه و يحف شاربه ، ويقصر من جلبابه، لكنه كان ينهر ابن السبيل ولا يطعم المسكين، فحرم من نهر العسل واللبن الرقراق ، الذي تتراقص على ضفتيه الحوريات في دعوات صريحة أمام أعينه. فكان كلما قفز في النهر أنقلب العسل إلى ماء الغسول واللبن إلى غسلين و انقلبت الحوريات إلى أفاعي شهوانية القبلات السامة.
وغيره ممن لا تفتقر له مجتمعاتكم ، كان يكتب في الصحف الحرة ، وعلى صفحات الشبكة ، مناديا بحرية الرأي وقبول الآخر ، لكنه يشمئز وينسى كل ما خطته يده ، بمجرد أن يصادفه أحد زملائه برأي مخالف واحد، رغم اتفاقهم في العديد من الآراء سابقا، فيستنفر عبارات التسفيه ، ويمتطيها في مشوار طويل من الاستفزاز الصبياني، فنال عقاب قطع اللسان واستبداله بلهب يقع بين فكيه، دائم الاشتعال يشوي لثته و يبعث صهدا حارقا مخترقا المريء في طريقه للأمعاء.
وأنت جدك.....ا ..آ..ا..آ...هنا انطفاء معه الكلام وأغمض المؤرخ عينيه وجلس واضعا كفيه على وجهه من الخجل، لكن الطلبة أدركوا أنه عليهم أن يغيروا ما بعقولهم، التي اكتشفوا للتو أنها أصبحت مثل مخازن الغلال القديمة لا تحتوي إلا على رائحة المحصول الماضي..والكثير من العنكبوت.
..........
|